رؤى

ورقة مؤتمر: الجيش والاقتصاد في مصر بين الاحتكارات والفساد والاضطرابات الاجتماعية

حمل هذا المقال كبي دي إف

على مدار الأعوام الستة الماضية، تشكَّل في مصر نظام عسكري جديد بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، لم تقتصر هيمنة الضباط –والضباط السابقين– الكاملة على جهاز الدولة وحده، بل أن تلك الهيمنة قد امتدت لتطال الاقتصاد المصري الذي يعاني من مصاعب جمة. وبينما يتولى الضباط الحاليين إدارة إمبراطورية عملاقة من الأعمال التجارية، تحتكر مختلف قطاعات التصنيع والخدمات؛ فإن الضباط السابقون يشغلون مناصب بيروقراطية هامة، يتحكمون من خلالها في تطبيق خطة السيسي لتسريع تحرير الاقتصاد. هذا النظام العسكري تعتريه –على نحو جلي– عيوب عدة كانعدام الكفاءة والفساد وغياب خطة لتحقيق العدالة الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى إفقار قطاعات ضخمة من المجتمع، ما أدى بدوره لحالة من الاستياء الشعبي. ومع تعاظم حالة الاضطراب الاجتماعي، شهدت البلاد في الآونة الأخيرة عدة موجات من الاحتجاجات الشعبية. ففي بداية عام 2017، اندلعت، على سبيل المثال، احتجاجات الخبز في ردة فعل على التخفيض المفاجئ في الدعم المقرر للمواد الغذائية. فعقب قيام وزير التموين في حكومة السيسي آنذاك –وهو لواء سابق– بتخفيض الدعم الحكومي للمواد الغذائية الأساسية، الذي تستفيد منه الطبقات الدنيا، تظاهرات حشود من فئات الشعب التي تعاني الفقر والجوع في شوارع البلاد. وفي الأمس القريب، وتحديدًا في سبتمبر 2019، نشر مقاول من منفاه الاختياري في أوروبا سلسلة من مقاطع الفيديو لاقت رواجًا هائلًا على وسائل التواصل الاجتماعي فضح فيها الفساد المستشري في شركات الإنشاءات المملوكة للجيش، واستغلال عائلة السيسي لميزانية الدولة من أجل بناء القصور الباذخة، فتظاهر آلاف من المحتجين في ميدان التحرير استجابةً للدعوة التي أطلقها المقاول للإطاحة بالسيسي ونظامه العسكري.

منذ اكتساح السيسي للانتخابات الرئاسية الأولى في عهده سنة 2014، عمد نظامه إلى تطبيق سياسات نيو-ليبرالية قاسية آلمت الطبقات الدنيا بصفة خاصة، بينما سمحت للضباط الممسكين بزمام الحكم ببسط سيطرتهم على الاقتصاد على نحو غير مسبوق، وفرضِ رقابة لصيقة على النشاط المدني والوسائط الإلكترونية، إضافة إلى السيطرة التامة على وسائل الإعلام الرسمية والخاصة على حد سواء؛ لاستخدامها في الأغراض الدعائية. وكنتيجة حتمية لهذه الظروف القمعية، تشكلت عدة حلقات من الاضطرابات الشعبية التي اتسمت بالحدة؛ إذ عبّرت جماعات اجتماعية مختلفة عن استيائها من الأوضاع السائدة بالانضمام إلى أعمال الاحتجاج والاضطرابات الجارية بسبب تخفيض الدعم عن المواد الغذائية، أو عن طريق تنظيم الإضرابات العمالية، أو اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن مظالمها المتكررة، أو المشاركة في مظاهرات شعبية عفوية. من جانبه يلجأ الجيش إلى سبل مختلفة في مكافحة المعارضة؛ كاستخدام العنف، مثلًا، من خلال نشر الشرطة العسكرية، أو تطبيق إجراءات رقابة إلكترونية مشددة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو بث الدعاية بشأن نزاهة الضباط وعدم قابليتهم للرشوة وروحهم الوطنية وكفاءتهم على صعيد مشاريع الأعمال من خلال إنتاج البرامج التلفزيونية والأغاني والأفلام وما إلى ذلك. أو بالمقابل، يظهر السيسي بنفسه على الملأ لإلقاء خطابات مطولة في مؤتمرات يريد من خلالها غرس أفكاره ومعتقداته في عقول الشباب المدني، إلى جانب الحلقات التثقيفية التي يعقدها أحيانًا لمخاطبة ضباط الكليات العسكرية الجدد. ومع ذلك لا يبدو أن هذه القبضة المحكمة على السلطة ستمكنه من الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي في البلاد على المدى القصير.

يركز هذا المقال على التاريخ الحديث والحقائق الراهنة لهيمنة المؤسسة العسكرية المصرية على الاقتصاد وإمبراطوريتها التجارية العملاقة. والأهم من ذلك، يتتبع المقال ردة فعل الطبقتين الدنيا والمتوسطة إزاء مستويات الهيمنة غير المسبوقة التي مارسها الجيش، لاسيما في السنوات القليلة الماضية، خاصةً بعد الضرر الشديد الذي لحق بسبل رزق هاتين الطبقتين جراء الممارسات الاحتكارية والفاسدة الساعية لتحقيق الأرباح. ويرى المقال أن الموجات الاحتجاجية الأخيرة تعكس، على الرغم من كونها عفوية ومتقطعة، عدم إمكانية استدامة النظام العسكري، بالإضافة إلى احتمالية سقوطه أمام الانتفاضات الشعبية التي قد تندلع مجددًا في المستقبل المنظور.

التاريخ الحديث «للضباط النيوليبراليين»

شكّل الجيش المصري، قبل سنة 2011، جزءً لا يتجزأ من الدولة المستبدة لحكم الديكتاتور العسكري السابق حسني مبارك (حكم مصر من 1981-2011) وخصوصًا على المستويات الاقتصادية. عمل مبارك بقوة، على مدار تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي، على عسكرة السوق المصري المحرَّر جزئيًا والجهاز البيروقراطي المسئول عن سياساته المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي. فمن ناحية، سمح مبارك للمؤسسات العسكرية بتوسيع رقعة إمبراطورية أعمالها الضخمة التي مارست نشاطها متمتعة بامتيازات خاصة على حساب القطاعين العام والخاص. وعيّن مبارك، من ناحية أخرى، عددًا كبيرًا من الضباط المتقاعدين في مناصب حكومية رفيعة للسيطرة على الخدمات الاقتصادية المهمة.

على صعيد الأعمال التجارية العسكرية، نشأت طبقة جديدة من “الضباط النيو-ليبراليين” في مصر أوائل تسعينيات القرن الماضي، وتمددت إلى حد كبير خلال العقد الأول من الألفية. ونفّذ الجيش المصري خطة واسعة النطاق لتحويل أجزاء مهمة من صناعاته الحربية نحو إنتاج السلع المدنية، وأضاف إليها شركات تجارية ضخمة جديدة. وهكذا، أخذت المصانع العسكرية تعمل بكثافة على تحويل مرافقها وعمالتها صوب إنتاج السلع الاستهلاكية كغسالات الملابس والثلاجات وأجهزة التلفزيون وأدوات المطبخ ومبيدات الحشرات المنزلية والأسمدة وسلع أخرى، بعد أن اعتادت لعقود على صناعة العتاد الحربي كالذخائر والصواريخ والطائرات والقذائف والمتفجرات والمسدسات والمدرعات. إضافةً إلى ذلك، انصرف العديد من وحدات الجيش والكيانات الاقتصادية العسكرية إلى تشغيل شركات أعمال تجارية مربحة في عدد كبير من القطاعات. وأصبحت الشركات العسكرية تُنتج اليوم كل شيء تقريبًا في معظم القطاعات، بدايةً من الأغذية المعلبة إلى السيارات الفخمة وأفران الطبخ والمواد الكيماوية والفولاذ والإسمنت –على سبيل المثال لا الحصر. علاوةً على ذلك، قدمت الشركات العسكرية جميع أنواع الخدمات العامة مقابل تحقيق الربح؛ إذ أنشأت صالات الأفراح والفنادق الفخمة ومحلات السوبر ماركت ومطاعم الوجبات السريعة وشركات السفريات النهرية وأشياء أخرى. ووضعت الشركات يدها على أراض شاسعة بهدف بناء الطرق السريعة وتقاضي رسوم على استخدامها وتحصيل تلك الرسوم يوميًا، واستغلت مزارع تجارية ضخمة كما صدّرت منتجاتها. كذلك أصبح لها تأثير على الحياة اليومية للطبقات الوسطى والدنيا من خلال الخبز المدعوم سواء بخبزه أو بيعه، وبناء الشقق السكنية لبيعها بأسعار معقولة، وبيع الأدوية، ورعاية الألعاب الرياضية الشعبية وغير ذلك. لقد جنت الشركات العسكرية أموالًا طائلة، لكنها لم تدفع عنها أية ضرائب أو جمارك، كما أنها كانت فوق المساءلة العامة وانتهكت حقوق العمال على نحو فظيع.

على الصعيد البيروقراطي، احتفظ مبارك بالوجه المدني للحكومة في القاهرة عن طريق تشكيل حكومات من التكنوقراط، لكن الحكام الفعليين للبلاد كانوا هم اللواءات المتقاعدين؛  حيث كان هؤلاء اللواءات هم الحكام الفعليين لمعظم المستويات المحلية في مصر؛ من خلال تبوئهم لمناصب الحكام المحليين ورؤساء البلدات والأحياء وما إلى ذلك. بالإضافة إلى توليهم المناصب التي تدير كافة المنافذ البحرية والنهرية والبرية وهيمنوا على السلطات الحكومية التي توفر جميع وسائل المواصلات العامة ابتداءً من الحافلات إلى المراكب وحتى خطوط الطيران. علاوة على ذلك، تولوا المناصب المسئولة عن توفير الخدمات العامة الأساسية للمواطنين، من المياه وشبكات الصرف الصحي والإسكانات ميسورة الكلفة وحتى المواصلات. والأهم من هذا وذاك، تولى ضباط سابقون عملية توجيه التحول السريع لمبارك نحو السوق عن طريق تولي المناصب الإدارية الحساسة المسيطرة على الاستثمار الأجنبي، وتخصيص أراضي الدولة لمستثمرين من القطاع الخاص، وأنشطة الاستيراد والتصدير، والشركات القابضة المملوكة للدولة المراد خصخصتها، وأنشطة أخرى كثيرة.

الانتفاضات العمالية ضد الهيمنة العسكرية سنة 2011

عشية ثورة عام 2011، كان السخط الشعبي يتصاعد ولكن ليس ضد مبارك وحده، بل أيضًا ضد الهيمنة القمعية للضباط والضباط السابقين. وبالتالي، وبينما كانت الثورة تتفجر في ميدان التحرير بالقاهرة، اندلعت بموازاتها موجة احتجاجات شعبية قام بها موظفون وعمال ضد المدراء العسكريين في الشركات التجارية والمكاتب الحكومية على حد سواء في جميع أنحاء البلاد. ولما نجحت الاحتجاجات في الإطاحة بمبارك، استولى قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على السلطة لكنهم سرعان ما واجهوا إضرابات عمالية واسعة النطاق واعتصامات واحتجاجات في جميع المؤسسات الاقتصادية، تقريبًا، المملوكة من قبل مكتب تابع للجيش أو الحكومة يتولى إدارته ضابط سابق بالقوات المسلحة.

فعلى سبيل المثال، دبت الفوضى في المصانع التابعة لوزارة الإنتاج الحربي بسبب إضراب آلاف العمال؛ لمطالبتهم بأجور عادلة، ومعاقبة الضباط الفاسدين الذين يديرون المصانع، ووقف المحاكمات العسكرية للعمال المدنيين. كذلك كان الغليان سيد الموقف في الهيئة العربية للتصنيع المملوكة من قبل الجيش –وهي عبارة عن تكتل مؤلف من 13 مصنعًا– جراء احتجاج آلاف العمال للمطالبة بحصة عادلة من الأرباح السنوية، واتخاذ إجراءات بحق المدراء الفاسدين. وفي المكاتب البيروقراطية، مثلًا، طالب الموظفون في “هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة”، القائمة على تنفيذ خطط الدولة لبناء الإسكانات ميسورة الكلفة، بالتخلص من جميع الإداريين العسكريين. وبدأ الموظفون والعمال في مطار القاهرة والمطارات الأخرى المحلية إضرابات واسعة النطاق رفضًا لعسكرة الطيران المدني والأجور غير المنصفة. وكان رد الفعل قاسيًا، إذ تدخلت الشرطة العسكرية لتفريق اعتصامات العمال وأصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة قانونًا يحظر الإضرابات العمالية وحوّل مخالفيه إلى محاكم مدنية وعسكرية.

وعندما تولى الإخوان المسلمون السلطة، عبر انتخابات برلمانية ورئاسية سنة 2011-2012، شكلوا تحالفًا خفيًا مع الجيش، واستمر الإخوان في التقليد الذي اتبعه مبارك بتعيين الضباط السابقين في مناصب حكومية، كما سمحوا لإمبراطورية الأعمال العسكرية بالتمدد أكثر. أدى الفشل الاقتصادي لنظام الإخوان في الفترة من 2012-2013 والكبت الاجتماعي المحافظ إلى صرف الانتباه بعيدًا عن الضباط وامتيازات التي أصبحت تتزايد ولكنها أقل ظهورًا للعيان. وهكذا، عندما تفجرت الاحتجاجات الشعبية من جديد في البلاد ضد النظام الاستبدادي الإسلامي، برز الجيش باعتباره المخلص الوطني الوحيد للبلاد وقدم نفسه على أنه –بزعم منه– مؤسسة الدولة الوحيدة التي تتسم بالكفاءة وعدم القابلية للفساد والمؤهلة لحماية البلاد. ومن ثم استفاد وزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي من الاحتجاجات الشعبية في عزل الرئيس الإسلامي، والجلوس بعد وقت قصير على كرسي الرئاسة عبر صناديق الاقتراع في صيف عام 2014.

نظام عسكري جديد: إصلاح اقتصادي وفقر واحتجاجات

تمددت في عهد السيسي السلطات المستبدة، وتمددت معها السلطات الاقتصادية للضباط والضباط السابقين وارتقت إلى مستويات غير مسبوقة. فمن جهة، استحوذ مزيد من اللواءات المتقاعدين على مناصب حكومية مهمة مسئولة عن إدارة ميزانية الدولة واقتصادها الوطني. واستأثر هؤلاء بالمناصب البيروقراطية بدءًا بمنصب مدير قناة السويس وشركاتها المملوكة للدولة وحتى منصب وزير التموين ووزير النقل ومحافظ القاهرة ورئيس الهيئة العامة للتنمية الزراعية ووكيل وزارة الإسكان ومناصب أخرى، على سبيل المثال لا الحصر. علاوةً على ذلك، يحتل لواءات سابقون منصب المحافظ في معظم محافظات البلاد، بالإضافة إلى توليهم مناصب القيادة في عدد كبير من المحليات أو إدارة أقسام كبيرة من المدن. ومن جهة أخرى، قام لواءات بالزي العسكري بالتوسع على نحو هائل على صعيد تشكيل التكتلات الاحتكارية المؤلفة من مجموعة من شركات الأعمال العسكرية لا تتم مراجعة حساباتها، أو تحصيل ضرائب عنها، من قبيل المزارع المضافة ومعامل الصناعات الدوائية ومحطات البنزين ومزارع تربية الأسماك ومصانع الإسمنت والفولاذ ومعامل تغليف الأغذية وغير ذلك.

الجانب الأبرز في الصورة هو تنامي حجم “الهيئة الهندسية للقوات المسلحة”، المعروفة على المستوى الشعبي باسم “الهيئة الهندسية” باعتبارها المقاول الأوحد الأضخم والاحتكاري وغير الخاضع للمساءلة في البلاد. تحيل الحكومة مشاريع الإنشاءات العامة، كالمدارس والمستشفيات والجسور وما إلى ذلك، إلى الهيئة الهندسية خارج عملية المنافسة المفتوحة، حيث يتم تنفيذ هذه المشاريع دون الخضوع للسلطات الرقابية للبرلمان أو الجهاز المركزي للمحاسبات. وقد عدّل السيسي قانون العطاءات العامة مرتين، في 2013 و 2016 من أجل السماح بمثل هذه الإحالات المباشرة للمشاريع الحكومية على مجموعات الشركات العسكرية على حساب المقاولين الآخرين من القطاعين العام والخاص. وقد استحوذت الهيئة الهندسية مؤخرًا على بعض المشاريع الإنشائية الكبرى من قبيل حفر تفريعة قناة السويس، وبناء آلاف الوحدات السكنية الاجتماعية، وبناء العاصمة الإدارية الجديدة، وإنشاء مدن أخرى جديدة عديدة. وعلى المنوال نفسه، تقوم الشركة الوطنية لإنشاء وتنمية وإدارة الطرق المملوكة للجيش ببناء الطرق السريعة القديمة والحديثة، التي يفرض رسوم على استخدامها، إضافة إلى إدارة هذه الطرق الممتدة لعشرات الآلاف من الكيلومترات في كافة أنحاء البلاد، وتحصيل الرسوم اليومية من المركبات أو الشاحنات الخاصة المدنية؛ لقاء السير عليها سواء لأغراض شخصية أو تجارية.[1]

في الآونة الأخيرة، تناولت الأوساط الشعبية مشاريع السيسي الإنشائية والعقارية الضخمة التي نفذها مقاولون عسكريون بعين التمحيص والغضب بسبب ما تهدره من موارد لا تقدر بثمن وانعدام قيمتها بالنسبة للاقتصاد الوطني. فعلى سبيل المثال، أحال السيسي مشروعه المفرط في الطموح لحفر “قناة سويس جديدة” وهي عبارة عن توسعة أُضيفت للقناة القديمة، على الهيئة الهندسية. وأصدرت البنوك الوطنية شهادات استثمار بغية بيعها للمواطنين المدنيين ونجحت في جمع 64 مليار جنية مصري (حوالي 9 مليارات دولار) من مدخراتهم لتمويل المشروع. وأمر السيسي مقاوله العسكري الأكبر بإكمال المشروع خلال سنة واحدة فقط، بدلًا من خمس سنوات كما كان مخططًا له سابقا، الأمر الذي استدعى الاستعانة باحتياطي البلد من العملات الأجنبية من أجل التعاقد مع مقاولين دوليين من الباطن واستئجار معدات متطورة منهم. ومنذ استكمال هذا المشروع سنة 2015، لم يحالفه الحظ كثيرًا في إدرار الدخل. فمن جهة، أساء الضباط عديمي الخبرة إدارته ماليًا نظرًا لأن كلفته العالية استنزفت احتياطي البلد من العملات الأجنبية؛ ونتيجة لذلك عانى البنك المركزي المصري من نقص في الدولار، فيما تمت إقالة مديره بعد تأكيده بأن المشروع استهلك كميات هائلة من العملات الأجنبية في البنك في سبيل إنجازه في فترة قصيرة بدون داعي. ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من وعود النظام المتكررة بأن التوسعة ستحقق زيادات ضخمة في إيراد القناة، انخفض الإيراد السنوي للقناة حال افتتاح التوسعة بسبب تباطؤ حركة التجارة الدولية.[2] كذلك باتت القيمة الاقتصادية لمشروع ضخم آخر مماثل ينفذه مقاولون عسكريون، وهو “العاصمة الإدارية الجديدة” موضوعة تحت المجهر مؤخرًا. ويؤكد الخبير الاقتصادي جلال أمين أن هذه المدينة الجديدة، وكثير غيرها، ليست سوى استثمارات عقارية أكثر من كونها مشاريع للتنمية الاقتصادية طويلة الأمد وهي تخدم في المعظم الطبقات العليا في “بلد يعاني الجوع”.[3]

آثر نظام السيسي العسكري خلال السنوات الخمس الماضية اتخاذ تدابير قاسية لتحرير الاقتصاد مما أثار مختلف أشكال المعارضة في صفوف الكثير من الجماعات الاجتماعية المحرومة أو المهمشة. وحظي السيسي بتشجيع كثير من حلفائه في المجتمع الدولي، وخصوصًا الولايات المتحدة، على استكمال التحولات النيو-ليبرالية التي بدأها حسني مبارك أوائل تسعينيات القرن الماضي. وهكذا، تقدم النظام، في الفترة ما بين عام 2016 و2019، بطلب للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي وحصل عليه على دفعات. واقتضى الاتفاق الخاص بهذا القرض معالجة العجز المزمن في ميزانية الدولة عن طريق إجراء تخفيض على دعم المواد الغذائية والبنزين وغير ذلك من أشكال الإنفاق العام، وتعويم العملة، وخصخصة القطاع العام، وغير ذلك. وخلال السنوات الثلاث التي استغرقها طلب القرض واستلامه، اتخذ النظام قرارات متسرعة لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة. ولكن، مع كل خطوة إصلاح تقريبًا اتخذتها الحكومة، عانى المدنيون من أبناء الطبقات الدنيا فيما استغلت شركات الأعمال العسكرية الوضع لجني أرباح طائلة. وكان الضباط الحاكمون انتقائيين على نحو مثير للقلق في تنفيذ شروط القرض؛ بحيث نفذوها بطريقة ألحقت الضرر الجسيم بالطبقات الدنيا وزادت من حجم ثرواتهم هم. وسنورد فيما يلي بعضًا من الحالات التي تلقي الضوء على هذه الممارسات التي أدت في كثير من الأحيان إلى احتجاجات أو تعبير محدود عن الاستياء.

كان من بين التدابير الأساسية المطلوبة من أجل تخفيض نفقات الميزانية إلغاء الدعم عن المواد الغذائية الذي تقدمه الحكومة المصرية للطبقات الدنيا من الشعب منذ ستينيات القرن الماضي. ويعد الخبز أكثر السلع الغذائية أساسية بالنسبة للمجتمع المصري، لكنه نال نصيبه من تخفيض الدعم. ففي أوائل عام 2017، أصدرت وزارة التموين، التي تَعاقَب على رئاستها لواءان سابقان، قرارًا مفاجئًا بتخفيض عدد أرغفة الخبز التي يحق لكل أسرة تنتمي للطبقة الدنيا شراؤها بسعر رخيص من المخابز التابعة للحكومة، إلى النصف. واندلعت نتيجة لهذا القرار احتجاجات في شتى أنحاء البلاد. وقامت قوات الأمن بتفريق التظاهرات التي سارع النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تسميتها “بانتفاضة التموين” لأنها أعادت إلى الأذهان ذكريات مظاهرات مماثلة تتعلق بالخبز خرجت سنة 1977 رفضًا لقرار مماثل اتخذه السادات بضغط من صندوق النقد الدولي. وهتف المتظاهرون من النساء والرجال الذين خرجوا إلى الشوارع في المناطق المحلية “عاوزين ناكل”. في غضون ذلك، حاولت المؤسسة العسكرية الثرية تهدئة الغضب الشعبي عن طريق توزيع طرود غذائية خيرية على الفقراء من إنتاج مزارعها التجارية الضخمة.[4] وعلى نحو يثير الاهتمام، تولت شركة مختصة بتكنولوجيا معلومات مملوكة لوزارة الإنتاج الحربي مسئولية إعداد قوائم المستفيدين من الدعم الحكومي وإصدار “البطاقة التموينية الذكية” لهم ليستخدموها في الحصول على الحصص المخصصة لهم من الخبز. وتدير الوزارة اليوم النظام الرقمي الذي يقرر حصة كل مواطن من الخبز المدعوم.[5]

وبالطريقة نفسها، قررت الحكومة تخفيض الدعم المستمر منذ عقود على مادة السكر بحلول نهاية عام 2017. وبالتالي، وجدت الطبقات الدنيا المصرية نفسها وجهًا لوجه مع أزمة حادة في مادة السكر. فقد اختفى السكر المدعوم على نحو غامض من منافذ التوزيع المملوكة للدولة، فيما لم يكن الانتظار في طوابير طويلة، لا تخلو في أغلب الأحيان من الشجارات العنيفة، أمام هذه المنافذ يشكل أية ضمانة للحصول على السكر. واعتقلت الشرطة أحد المارة لأنه كان يحمل كمية تزيد عن حصة عائلته “القانونية” من السكر. وفي النهاية عاد السكر إلى الظهور في السوق من جديد ولكن بعد أن قام وزير التموين العسكري بمضاعفة سعره. وتحت مزاعم المساعدة في حل المشكلة، قام الجيش بمصادرة السكر من الباعة من القطاع الخاص ومن ثم بيعه في المنافذ المملوكة للجيش. وتعهد محافظ الإسكندرية آنذاك، وهو لواء سابق، بإنهاء الأزمة التي تسبب بها –على حد قوله– تجار القطاع الخاص الجشعون. في تلك الأثناء، باعت شركة السلام لبيع منتجات القوات المسلحة المملوكة للجيش آلاف الأطنان من السكر بأسعار معقولة في الأحياء الفقيرة.[6]

وفي اليوم نفسه الذي خُفضت فيه قيمة الجنيه المصري سنة 2017، قرر النظام العسكري رفع أسعار البنزين إلى الضعف تقريبًا. وكان هذا القرار الأول من بين قرارات كثيرة اتخذت خلال السنوات القليلة الماضية لرفع الدعم تدريجيًا عن الوقود وإلغائه تمامًا في نهاية المطاف. تمتلك وزارة الدفاع سلسلة من محطات الوقود المنتشرة على نطاق واسع في مئات المواقع وعلى كل طريق في طول البلاد وعرضها. وبعد صدور القرار، كانت محطات الوقود التابعة للشركة الوطنية للبترول العائدة ملكيتها للجيش هي المكان الوحيد الذي يمكن لسائق شاحنة أو سيارة الحصول على بنزين بسعر معقول في الأوقات الصعبة التي شهدت نقص البنزين، الأمر الذي كان يتطلب الانتظار في طوابير طويلة في المحطات العامة أو الخاصة الأخرى التي كان مخزونها من الوقود ينفد معظم الوقت. وقد نظم بعض الشباب حملة لمقاطعة منتجات الوطنية احتجاجًا على ارتفاع أسعار البنزين.[7]

وشكل نقص الأدوية حكاية مأساوية أخرى نتجت عن تخفيض قيمة العملة، إذ قررت الحكومة في يناير 2017 رفع أسعار الأدوية بنسبة  خمسين في المئة. وعمد وزير الصحة لدى صدور القرار بتعيين لواء سابق رئيسًا لشركة اللقاحات المملوكة للدولة. ولكن قبل ذلك بشهور، استيقظت الأمهات المنتميات للطبقة الدنيا على أزمة نقصٍ في حليب الأطفال المدعوم سابقًا من قبل الحكومة، فتفجر غضبهن في الحال على شكل احتجاجات واسعة النطاق شاركن فيها وهن حاملات أطفالهن بينما كن ينتظرن لساعات أمام منافذ التوزيع التابعة للدولة. ومرة أخرى تقدم الجيش ليلعب دور المخلص من الأزمة من خلال التطوع باستيراد عبوات الحليب. ووصلت العبوات بوقت أسرع مما تستغرقه الإرسالية الدولية في العادة حيث تم بيعها بسعر مضاعف، ما يوحي بأن الجيش ربما كان قد خطط للأزمة للتكسب منها. علاوةً على ذلك، تعهدت وزارة الإنتاج الحربي بتقديم مزيد من المساعدة عن طريق بناء المعمل الخاص بها لتحضير هذا الحليب. وعلى إثر ذلك، وقع وزير الدفاع اتفاقية مع شركة خاصة محلية لإبرام شراكة معها لإنتاج حليب الأطفال.[8]

وللوفاء بشرط آخر من شروط بنك النقد الدولي بخصوص القرض، أصدر النظام قانون الخدمة المدنية رقم 81 في سنة 2017 أيضًا. ويرمي هذا القانون إلى تخفيض عدد الموظفين الحكوميين في الجهاز البيروقراطي المترهل للدولة وتخفيض رواتبهم. وفي الوقت الذي صوت فيه البرلمان المصري بالموافقة على هذا القانون، وافق أيضًا على قانون آخر لزيادة معاشات العسكريين بنسبة خمس عشرة في المئة –ولم تكن تلك هي الزيادة الأولى التي يحصل عليها الضباط المتقاعدون خلال الأشهر الأخيرة. علاوةً على ذلك، أيد البرلمان إنشاء صندوق جديد لتوفير الخدمات الطبية والاجتماعية للقضاة العسكريين. وكان بعض هؤلاء القضاة منصرف عندئذٍ إلى إرسال العشرات من عمال الشركة المصرية لإصلاح وبناء السفن –المملوكة للجيش في مدينة الإسكندرية– إلى السجن العسكري بتهمة التحريض على الإضراب. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من سعي قانون الخدمة المدنية الجديد إلى تقليص حجم البيروقراطية، إلا أن المادة 21 منه أعطت الرئيس سلطة تعيين المسئولين في المناصب القيادية، مما يسمح للسيسي بتعيين مزيد من الضباط السابقين في مناصب مدنية رفيعة في الحكومة والقطاع العام حال إحالتهم على المعاش حيث سيحظون براتب مدني جديد إضافة إلى راتبهم التقاعدي العالي.[9]

إلى جانب عملية الإفقار التي تواجهها معظم فئات المجتمع اليوم، يعاني العمال المدنيون في القطاع العام أو الخاص أو الشركات العسكرية من اضطهاد متزايد؛ فعادة ما يواجَه رد فعلهم الثوري بالقمع الشديد. وقد مرر البرلمان المفصَّل على مقاس الجيش قانونًا جديدًا للنقابات المهنية يقوض سنين من الكفاح العمالي من أجل الحرية في التنظيم. وينزع القانون الجديد الشرعية عن عدد كبير من النقابات المستقلة التي أسسها العمال بحماس كبير غداة الإطاحة بمبارك عام 2011، كما أنه يُبقي النقابات القائمة خاضعة لسلطة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر الذي تسيطر عليه الدولة والذي يهيمن على الحياة العمالية منذ عقود. وقد واجه العمال الذين أضربوا عن العمل في المصانع العسكرية المزيد من المحاكمات العسكرية؛ فالمحاكمة العسكرية للعمال الستة والعشرين في الشركة المصرية لإصلاح وبناء السفن بالإسكندرية، على سبيل المثال –وهي بالأصل شركة مملوكة للدولة استحوذ عليها الجيش عند خصخصتها قبل عقد من الزمن– جرى تمديدها إلى عدد لانهائي من الشهور. وقد اتُّهم هؤلاء العمال، ومن ضمنهم امرأة، بتحريض زملائهم على الإضراب للمطالبة بتطبيق تدابير سلامة أفضل وأجور منصفة، فيما أُجبر كثير منهم على الاستقالة أثناء سير المحاكمة.[10]

حدٌّ من الفقر أم سعي لتحقيق الأرباح؟

لجأ الجيش في هذه الظروف الصعبة من المعاناة الاقتصادية التي تواجهها الطبقات الدنيا إلى جهود الحد من آثار الفقر؛ بغية احتواء الغليان الشعبي. ففي شهر رمضان من كل سنة، يقوم الجيش بتوزيع الملايين من صناديق الأغذية في المناطق الفقيرة في المدن والأرياف في شتى أنحاء البلاد. إذ يقوم مجندو الخدمة العسكرية الإلزامية من مختلف أفرع القوات المسلحة بتعبئة مواد غذائية من ضمنها السكر والأرز والفاصوليا والمكرونة وزيت الطهي ومعجون الطماطم والشاي في صناديق يحمل كل منها علامة هيئة التموين بالقوات المسلحة إلى جانب علامة صندوق تحيا مصر الخيري الذي أنشأه السيسي. يستطيع الجيش تقديم مثل هذه الكميات الضخمة من المواد الغذائية بفضل المزارع الضخمة التابعة له، والتي تحتوي على عدد كبير من معامل الصناعات الغذائية وشركات تصدير المنتجات الغذائية، خاصةً وأنه يستغل العمالة المجانية بتشغيل مئات الآلاف من الشباب المجندين في أعمال إنتاج الأغذية وتعبئة الصناديق المراد توزيعها.[11] كانت مثل هذه الطرود الغذائية الخيرية أداة يستعملها الساسة المدنيون لكسب التأييد قبل انتخابات المجلس النيابي. أما الآن فإنها توظَّف من قبل الجيش كأسلوب لاحتواء أية احتجاجات محتملة بسبب الجوع.

وفي محافظة كفر الشيخ الساحلية، وهي إحدى المناطق التي انطلقت منها احتجاجات الخبز، باع الجيش صناديق المواد الغذائية بأسعار زهيدة دعمًا لجماهير الفقراء. وقد عبأ جنود الجيش عشرات الآلاف من الصناديق التي احتوى كل منها على كميات مقبولة من السكر والأرز وزيت الطهي والمعكرونة ومعجون الطماطم والشاي وغيرها، وزُعم أنهم باعوها بنصف الثمن في الأحياء التي يقطنها أبناء الطبقات الدنيا. إضافةً إلى ذلك، تجمّع آلاف من السكان المحليين حول شاحنات الجيش التي توزعت في مختلف أنحاء المحافظة لبيع اللحوم والدواجن بسعر رخيص. وفي الوقت ذاته، وبينما كانت الشركة الوطنية للأسماك –المملوكة للجيش– تدشن مشروعا ضخمًا على شواطئ المتوسط الغنية للمحافظة، فإنها كانت تخلي الصيادين المحليين من المنطقة للاستيلاء عليها. وقد اصطدم جنود الجيش مع الصيادين الفقراء إثر منع مراكبهم من الإبحار في رحلات العمل اليومية لها، وسُمع صوت إطلاق الرصاص في هذه الصدامات. وأعلن محافظ كفر الشيخ، لواء سابق آنذاك، أن هذا المشروع هو هدية السيسي للشعب المصري. وتولى مهندسو الجيش القيام بما يحتاجه المشروع من أعمال إنشائية بما في ذلك بناء منطقة صناعية لمصانع تجميد الأسماك.[12]

وعلى المنوال نفسه، وفي إطار محاولات الحد من آثار الفقر، باشر السيسي في مشاريع بناء إسكانات اجتماعية واستصلاح أراضٍ –تُدار جميعها من قبل مقاولين عسكريين. وشكَّل إطلاق السيسي مشروع “المليون وحدة سكنية” للإسكان الاجتماعي حدثًا قوبل باحتفالات عظيمة ابتهاجًا بانتشال أبناء الطبقات الفقيرة من أحياء الصفيح التي يقبعون فيها. وكما جرت العادة، أحال الرئيس المشروع مباشرة إلى الهيئة الهندسية من أجل تدبير منحة ضخمة من الإمارات العربية المتحدة والتعاون مع شركات العقارات الإماراتية. وفي وزارة الإسكان، تعهد لواء سابق كان يترأس الجهاز المركزي للتعمير بالوزارة، بأن تستفيد آلاف الأسر عما قريب من ظروف السكن المحسنة في المنيا، وهي محافظة فقيرة وسط مصر اندلعت فيها احتجاجات بسبب المواد الغذائية، ومناطق أخرى. إلا أن المشروع اصطدم بالكثير من المشكلات التي نشأت بين الحكومة وشركائها الإماراتيين. وبالتالي، تم تخفيض العدد المفرط في الطموح من الوحدات السكنية المراد بنائها إلى 100,000 وحدة فقط، مما أثار استياءً عامًا في صفوف السكان الفقراء في المنيا ومحافظات أخرى ممن تعلقوا بوعود الضباط وكافحوا من أجل تحضير دفعاتهم الأولى لحجز شقة صغيرة. علاوةً على ذلك، عندما قامت الهيئة بالفعل بتسليم شقق لبعض العائلات في المنيا وجدتها هذه العائلات في حالة مزرية وأبعد ما يكون عن مطابقة المواصفات وجودة البناء التي دفعوا المال مقابلها.[13]

أحال السيسي مشروع “المليون ونصف فدان”، وهو مشروع زراعي كان يهدف إلى مساعدة صغار المزارعين في جهود استصلاح الأراضي، إلى المقاول العسكري نفسه، أي الهيئة الهندسية. وطلب السيسي من المهندسين العسكريين الإسراع في الانتهاء من حفر آبار المياه وبناء البيوت والعيادات والمدارس إلى آخره في المناطق المراد تطويرها، واعدًا الشباب الذين تقدموا بطلبات للحصول على قطعة أرض في المشروع بالازدهار العظيم. وشعر عدد كبير من المزارعين في محافظة قنا، وهي محافظة فقيرة تقع جنوب مصر، بالانزعاج والغضب عندما رأوا جنود القوات المسلحة قادمين لمصادرة أراضٍ صحراوية كان المزارعون أصلًا قد استصلحوها وزرعوها لعقود. وقد تم إجلاء هؤلاء المزارعين كي يتسنى ضم أراضيهم لأرض المشروع. واتهمهم الجيش بالتعدي على ممتلكات الدولة. وأمر محافظ قنا، وهو لواء سابق، باستخدام آليات التجريف الثقيلة لإزالة ممتلكات المزارعين القائمة على مساحة تبلغ مائة ألف فدان. ولم يكن بوسع المالكين المدنيين سوى إرسال شكاوى ضد هذا المحافظ إلى الهيئة العامة لمشروعات التنمية الزراعية بالقاهرة –التي كان يترأسها عندئذٍ لواء سابق آخر. ولكن وبعد فترة وجيزة وعلى نحو مثير للاهتمام، تم إيقاف المشروع الطموح برمته لعدم توفر مياه آبار أو أنهار بما يكفي لاستدامته. ومن الواضح أن السيسي كان أعلن عن المشروع بغرض الدعاية قبل التحقق من توافر الموارد الكافية لدعم قيامه.[14]

وأطلق الجيش أيضًا “مشروع تطوير محور قناة السويس” في محاولة لاستيعاب العمال العاطلين عن العمل في مشروع إنشائي عام وضخم. ومرة أخرى تولت الهيئة الهندسية المسئولية عن هذا المشروع، واستقدمت له عمالًا مهرة وغير مهرة من محافظات مختلفة، بحيث يسافروا للعمل في موقع المشروع. وزُعم أن السيسي رفض الاعتماد على العمالة الهندية زهيدة التكلفة في هذا المشروع وطلب من مهندسي القوات المسلحة خلق فرص عمل للعمال المحليين بأجور جيدة. ووزعت الهيئة تسجيلًا مصورًا مثيرًا للمشاعر يعرض مقابلات مع عشرات العمال الموسميين وهم ينزلون من حافلة وصلت للتو إلى موقع البناء بعد أن أقلتهم مسافة تزيد عن ألف ميل قادمين من محافظة قنا بالجنوب. وأعرب كل من تمت مقابلته عن مشاعر الاعتزاز لخدمة قضية وطنية كهذه ومن ثم وقفوا في طابور طويل أمام طاولة لتسجيل أسمائهم لدى ضابط جيش جلس هناك لهذه المهمة. وبعد بضعة أيام فقط، عاد أولئك العمال إلى قنا، وأصروا بأن مهندسي الجيش رفضوا إعطاءهم أجورًا منصفة، طعامًا مناسبًا، أو مكانًا مناسبًا للمبيت وسط الصحراء.[15]

 التفاخر بالإنفاق على مشتريات الأسلحة

أنهك الضباط الذين يحكمون مصر ميزانية الدولة بمضاعفة الإنفاق على شراء الأسلحة فيما عمدوا إلى تخفيض الإنفاق العام على المواد الغذائية للامتثال لشروط القرض المقدم من صندوق النقد الدولي. إذ اشترى السيسي أسلحة بمليارات الدولارات من الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية الراغبة في عقد الصفقات مع الرئيس العسكري الجديد خدمة للمصالح المتبادلة. وأبرم السيسي على نحو خاص صفقات ضخمة مع فرنسا وروسيا، فيما حلَت ألمانيا ثالثة على قائمة كبار الموردين الأوروبيين. ووفقًا للتقرير الصادر عام 2016 عن معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام بعنوان “Trends in International Arms Transfers” احتلت مصر المركز الحادي عشر بين أكبر مستوردي الأسلحة الكبرى في الفترة الواقعة بين عامي 2012 و2016 على مستوى العالم. وتشير المجاميع الكلية للبنك الدولي إلى أن هذه الواردات ارتفعت من 675,000,000 دولار عام 2013 إلى 1,483,000,000 عام 2016، حيث تزايدت هذه الواردات خلال السنوات الأخيرة بنسبة تسعة وستين في المئة. وتعتبر مصر في الوقت الحاضر أكبر زبائن فرنسا على صعيد مشتريات الأسلحة، كما أنها وقّعت صفقات أسلحة ضخمة كثيرة مع روسيا، فيما ارتفعت مبيعات الأسلحة الألمانية “خمسة أضعاف” لمصر والسعودية –وهي داعم إقليمي رئيسي للسيسي– في صفقات تساوي قيمتها مئات الملايين من اليوروهات.[16]

فمن فرنسا وحدها أبرم السيسي صفقات بقيمة ملياري يورو. أما الأخبار المحزنة فهي أن وزارة الدفاع لم تدفع ثمن هذه الأسلحة من الإيرادات التي راكمتها من أنشطتها التجارية، بل أخذت قروضًا من البنوك الفرنسية. وكانت فرنسا إلى حد بعيد المورّد الأكبر للأسلحة لمصر بعد صفقات شراء 24 طائرة رافال تبعتها صفقة سفن مسترال الحربية. وأقرضت الحكومة الفرنسية مصر مبلغ 3.2 مليار يورو لإبرام عقد طائرات رافال سنة 2015.[17] وزار السيسي باريس أواخر عام 2017 حيث استقبله الرئيس إيمانويل ماكرون المنتخب حديثًا آنذاك. وكما أوضحت الصحفية جينا لو براس في تقرير نشرته مدى مصر التي تتخذ من القاهرة مقرًا لها، “تمحورت العلاقة بين البلدين في السنوات الأخيرة على التعاون العسكري والأمني ومكافحة الإرهاب، فيما غضت فرنسا الطرف عن سجل مصر المقلق على صعيد حقوق الإنسان. ودافع ماكرون عن هذا الموقف أثناء زيارة السيسي قائلًا إنه ليس في موقع ’إعطاء‘ مصر محاضرة حول الحريات المدنية”.[18] وقد كلفت صفقة طائرات مسترال المروحية مصر نحو مليار دولار.[19]

الخلاصة

تظاهر في سبتمبر 2019 آلاف المحتجين في ميدان التحرير، الموقع التاريخي لثورة عام 2011، إضافة إلى ميادين عديدة أخرى خارج القاهرة في المحافظات المختلفة. واستجاب الرجال والنساء من طبقات المجتمع الدنيا والوسطى لدعوة غير اعتيادية لإسقاط السيسي، أطلقها مقاول من منفاه الاختياري، عبر نشر سلسلة من مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي فضح فيها الفساد المتعمق في النظام العسكري. ففي الوقت الذي طبّق فيه الحكام العسكريون سياسات تقشف اقتصادي عنيفة أثقلت كاهل الطبقات الدنيا، التي تتعرض للإفقار بشكل مضطرد، يستخدم الدكتاتور العسكري ميزانية الدولة لبناء قصور فخمة لعائلته، كما أثبت المقاول بالدليل من خلال مشاركته في بناء بعضٍ من هذه المنازل والقصور. علاوةً على ذلك، يكشف المقاول أن مهندسي الجيش من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة صاروا مقاولين فاسدين، وتعاظمت سطوتهم وأصبحوا على نحو جلي للجميع المقاول الأضخم والمحتكر للمشاريع الإنشائية العامة، ما سمح لهم بجمع ثروات هائلة من خلال الكسب غير المشروع. ونجح المقاول الصغير من منفاه، بشعبيته غير المسبوقة كمدني بلا تجربة مسبقة في ممارسة النشاط السياسي، في تحريك آلاف من المواطنين الساخطين لاقتحام الميادين العامة والمطالبة برحيل السيسي وإسقاط النظام العسكري.[20]

سيطر السيسي والجيش المصري بالكامل طيلة السنوات الخمس الماضية على الاقتصاد، وطبقوا سياسات سمحت للضباط الممسكين بزمام الحكم من تجميع الثروات، فاستفزت مشاعر السخط الشديد عند أبناء الطبقات الدنيا والوسطى التي تتعرض للحرمان على نحو مضطرد. وعلى الرغم من الاستقرار السياسي الظاهري للنظام، ظل عدم الاستقرار الاجتماعي واقعًا مخفيًا ومنكرًا. وقد أدى الغليان المتنامي إلى احتجاجات بين الفينة والأخرى لكن هذه الاحتجاجات ظلت محدودة جراء إجراءات التدقيق المدني والإلكتروني، وخشية الناس من ردة الفعل الانتقامية العنيفة للنظام. وبالرغم من أنه من غير المرجح، كما يبدو، أن يتخلى الجيش عن مكانته السياسية والاقتصادية المتحكمة في البلد، إلا أن تنامي الاضطراب الشعبي قد يجبره على القيام بذلك بشكل جزئي أو كامل في المستقبل القريب.

شكر وتقدير

هذا المقال هو ترجمة لورقة تم طرحها في أحد المؤتمرات التى عقدت في عام 2019.

[1] حمامة، محمد.(2016). “كم يساوي نشاط الجيش الاقتصادي…”، مدى مصر، 31 أكتوبر؛ أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/HVDj

سعيد، عمر. (2019). “ما كشفه محمد علي بدون قصد”، مدى مصر، 13 سبتمبر. أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/trY5.

[2] انظر “Egypt Reports 21-Month low in Suez Canal Revenues in November”، الأهرام أونلاين، 23 ديسمبر 2016. أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/bs2d.

[3] أمين، جلال. (2016)، “تنمية اقتصادية أم تنمية عقارية”، الشروق، 14 أبريل. أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020،

https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=14042015&id=1ba84601-21df-48b9-8594-3efae5b23575.

بدوي، رانيا.(2015). “جلال أمين… تجديد الخطاب الديني في بلد جائع مضيعة للوقت”، المصري اليوم، 5 مايو. أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، https://www.almasryalyoum.com/news/details/724074.

[4] “مظاهرات الخبز تمتد إلى القاهرة والإسكندرية…”، مدى مصر، 7 مارس2017. أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020،   t.ly/DrTb.

[5] مجدي، محمد. (2019). “رئيس معلومات الإنتاج الحربي…”، الوطن نيوز، 13 أغسطس. أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020،  https://www.elwatannews.com/news/details/4296604.

[6] أبو العز، هناء. (2016). “القوات المسلحة تؤمن نقل 3 آلاف طن من السكر لأهالي الإسكندرية”، اليوم السابع، 24 أكتوبر.

[7] انظر “حملة لمقاطعة محطات وقود يملكها الجيش المصري”، القدس، 2 يوليو 2017.

[8] “أمهات يحملن أطفالهن يتظاهرن في مصر طلبًا لحليب الأطفال”، بي بي سي، 2 سبتمبر 2016. أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2016/09/160902_egypt_women_demo_baby_milk؛

القاضي، زكي. (2017). “الإنتاج الحربي توقع بروتوكولًا مع لاكتو مصر…”، اليوم السابع، 20 يناير، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/cyKD.

[9] انظر على سبيل المثال:

فخري، نورا. (2017). “مجلس النواب يوافق على قانون بزيادة المعاشات العسكرية”، اليوم السابع، 19 يونيو، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/FE06؛

(2016). “المحكمة العسكرية تؤجل الحكم على عمال الترسانة البحرية”، مدى مصر، 15 نوفمبر، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/ynh0.

[10] رمضان، فاطمة. (2016). “مشروع قانون النقابات الجديد…”، مدى مصر، 6 ديسمبر، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/wNGU؛

رمضان، فاطمة. (2016). “القصة الكاملة لمحاكمة عمال الترسانة البحرية عسكريًا”، مدى مصر، 25 يوليو، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/oxKc.

[11] على سبيل المثال:

أبو علي، السيد. (2017). “زحام أمام منافذ بيع القوات المسلحة…”، المصري اليوم، 7 مارس، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020،  https://www.almasryalyoum.com/news/details/1099057

[12] سليمان، محمد. (2017). “أكبر مزرعة أسماك في الشرق الأوسط”، اليوم السابع، 5 يناير؛

https://www.facebook.com/safour1/videos/448485248680040/

[13] الجوهري، إسلام . (2016). “كيف تحول مشروع المليون وحدة سكنية إلى 13 ألفًا فقط”، مصراوي، 1يناير، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/MlGF؛

منير، مارتينا. (2019). “80 أسرة واقعة تحت ضرر شقق الإسكان الاجتماعي في المنيا”، الميدان،  9أغسطس، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/lDYX.

[14] حمدي، محمد. (2016). “إزالة جميع التعديات على مشروع الـ 1.5 مليون فدان بقنا”، المصري اليوم، 13 مايو، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، https://lens.almasryalyoum.com/news/details/946393؛

(2017).”كيف كانت نهاية فنكوش الـ 1.5 مليون فدان”، نون بوست، 23 يناير، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، https://www.noonpost.com/content/16310.

[15] محارب، إسراء. (2017). “عودة 200 عامل قناوي أرسلتهم القوى العاملة للعمل في محور قناة السويس”، قنا-أولاد البلد، 8 فبراير؛

https://www.youtube.com/watch?v=WJ1fNlv6Lmo.

[16] انظر البنك الدولي، “Arms Importers (SIPRI trend indicator value)”،

https://data.worldbank.org/indicator/MS.MIL.MPRT.KD?end=2016&start=2011&year_high_desc=true،

تم الدخول إليه في 10 يونيو 2018؛

Aude Fleurant, Pieter D. Wezman, Siemon T. Wezeman, and Nan Tian, “Trends in International Arms Transfers, 2016,”، معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، صفحة 6 وصفحة 11؛ Campaign Against Arms Trade (CAAT), “Egypt in the News”، تم الدخول إليه في 10 يونيو 2018، https://www.caat.org.uk/resources/countries/egypt/news.

[17] (2015). رويترز، “السيسي: صفقة سلاح مصرية فرنسية بقيمة 3.2 مليار يورو ممولة بقرض من باريس”، 1 مارس.

كابيرول، ميشيل. (2017). “Egypte: douze Rafale cloués au sol par Bercy”، لا تريبيون، 23 أكتوبر، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020. https://www.latribune.fr/entreprises-finance/industrie/aeronautique-defense/egypte-douze-rafale-cloues-au-sol-par-bercy-755147.html

ذا مليتري بالانس، 2016، صفحة 316. https://www.iiss.org/publications/the-military-balance/the-military-balance-2016

[18] لو براس، جينا. (2017). “France and Egypt: Allies of Convenience”، مدى مصر، 28 أكتوبر. أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، https://www.madamasr.com/en/2017/10/28/opinion/u/france-and-egypt-allies-of-convenience/

[19](2016). “مصر تستلم سفينة مسترال الحربية الثانية من فرنسا”، رويترز، 16 سبتمبر.

[20] عرمان، ليلى. (2019). “عركة الفلوس والصور”، مدى مصر، 21 سبتمبر، أخر تاريخ للاطلاع 2 أكتوبر 2020، t.ly/QHfL.

Read this post in: English

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى