مراجعات كتب

مراجعة لكتاب «جذور الثورة» لأنجيلا جويا

حمل هذا المقال كبي دي إف

الإشارة المرجعية: دهونت، سيدريك (2021). مراجعة لكتاب «جذور الثورة» لأنجيلا جويا. رواق عربي، 26 (1)، 11-13. https://doi.org/10.53833/COWV7652

تُشير المطالب الشعبية «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، والتي تردد صداها في شوارع مصر في 2011، إلى مدى مساهمة الظروف الاقتصادية الوخيمة في سقوط الرئيس حسني مبارك. في الواقع، سارعت الأدبيات الأكاديمية في الإشارة إلى بطالة الشباب وعدم المساواة في توزيع الثروة كأسباب لاندلاع ثورة 2011.[1] إلا أن الكاتبة أنجيلا جويا تتجاوز هذه الأدبيات في كتابها «جذور الثورة»، عبر استكشاف الأسباب الكامنة وراء تداعي الاقتصاد المصري عشية الربيع العربي. وتقدم المؤلفة، التي تشغل منصب أستاذ مساعد في جامعة أوريجون، حججًا مقنعة بأن المآزق الاقتصادية المستمرة في مصر تعود بالأساس للسياسات النيوليبرالية التي اعتُمدت خلال العقود السابقة.

في سبعة فصول، تثبت جويا حجتها بشكل متماسك، معتمدة على معالم التاريخ الاقتصادي لمصر، منذ الاستقلال الرسمي للبلاد في 1922 وصولًا للإطاحة بمبارك في 2011. وفي سبيل ذلك، تستند إلى نظريات الاقتصاد السياسي والإحصاءات، بشكل ملائم مع الأدلة السردية التي تم جمعها خلال العمل الميداني في ثلاث عشرة محافظة مصرية من إجمالي سبع وعشرين، وذلك بين عامي 2005 و2008. وبالنظر إلى استمرار صعوبة إجراء إحصاءات واسعة النطاق في مصر؛ فإن مصادر كتاب «جذور الثورة» هي إحدى السمات التي تجعل منه إصدارًا بارزًا في مجاله.

في البداية، توضح المؤلفة أنه في ظل حكم جمال عبد الناصر، الذي تولى رئاسة مصر في أعقاب ثورة 1952، تمت تهيئة المسرح لصعود الطبقة الرأسمالية النيوليبرالية. فبهدف استقلال مصر فعليًا عن القوى الاستعمارية السابقة؛ أنشأ عبد الناصر اقتصادًا مخططًا للدولة، وأدخل عدة إصلاحات أسفرت عن تأميم الشركات وإعادة توزيع الأراضي وتعزيز الحماية الاجتماعية للطبقات العاملة المصرية. رغم ذلك، أخفق حكم عبد الناصر في كسر شوكة مُلاك الأراضي؛ بسبب عدم قدرة الحكومة على تنفيذ الإصلاحات في جميع أنحاء مصر. في نهاية المطاف، عجّلت الأحداث الجيوسياسية، لاسيما فشل الوحدة مع سوريا وحرب الاستنزاف في اليمن (1962-1967) والهزيمة أمام إسرائيل في 1967، بزوال «الاشتراكية العربية».

تاليًا اتخذ أنور السادات، الذي أصبح رئيسًا لمصر في 1970، خيار القيام بعملية تحرير للاقتصاد عرفت باسم «الانفتاح». في أعقاب النجاح الأولي لحرب أكتوبر 1973 ضد إسرائيل، تمكن السادات من الاستفادة من المناخ السياسي الملائم، ومضي قدمًا في تنفيذ إصلاحات اقتصادية، كما جعل مصر في حالة اصطفاف مع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية. استفاد من كل ذلك الطبقة المالكة بشكل أساسي؛ لاستعادة امتيازاتها بعد معاناتها من الثورة الناصرية. بينما في الوقت ذاته، ارتفعت تكلفة المعيشة وعانت الطبقات الأدنى في مصر. وتجلى ذلك حين نفذّت الحكومة توصية صندوق النقد الدولي بخفض دعم المواد الغذائية الأساسية في عام 1977؛ فاندلعت انتفاضة الخبز سئية الصيت، وأسفرت عن مقتل عشرات المحتجين.

وفي ظل السخط العام من حكم السادات، والذي أدى لاغتياله على أيدي الإسلاميين في 1981. ونظرًا للطبيعة المثيرة للجدل للانفتاح؛ لم يكن من المثير للدهشة تردد حسني مبارك، الذي خلف السادات كرئيس، إزاء الضغط من أجل أجندة لتحرير الاقتصاد. إلا أن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بمصر خلال الثمانينيات، أجبرت مبارك على السعي لتقارب تدريجي مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وحثت تلك المؤسسات المالية الحكومة المصرية على إجراء إصلاحات متوافقة مع إجماع واشنطن لعام 1989، والذي اقترح مجموعة من توصيات السياسة النيوليبرالية، من بينها الخصخصة وتحرير الأسواق وتخفيض الضرائب، باعتبارها حلولًا للمأزق الاقتصادي في الدول الإنمائية فيما بعد الاستعمار.

خلال النصف الأول من التسعينيات، تابعت الحكومة التوصيات الخاصة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي في مصر، والذي كان إيذانًا بـ «قطيعة مع «العمل المعتاد» في السياسة الاقتصادية لمصر».[2] ورغم استمرار الإصلاحات النيوليبرالية؛ شهدت نسبة الفقر انخفاضًا لفترة وجيزة خلال وجود كمال الجنزوري في منصب رئيس الوزراء (1996-1999)، وهو الأمر الذي منحه لقب «وزير الفقراء». وبغض النظر عن ذلك، شهدت بداية القرن الحادي والعشرين ارتفاع نسبة الفقر مجددًا. إذ أدت حزمة الإصلاحات النيوليبرالية الجديدة، بقيادة نجل الرئيس جمال مبارك، إلى طفرة فيما وصفته الكاتبة بأنه «تراكم نزع الملكية»، أو مجموعة من العمليات التي أسفرت عن تركيز الثروة في يد قلة على حساب الأغلبية.[3] ومن المهم ملاحظة أن الإصلاحات لم يستفد منها الليبراليين الاقتصاديين فحسب؛ إذ تقول جويا أن هناك فئتين أخريين تمكنتا من التكيف مع الواقع الاقتصادي الجديد: الجيش وجماعة الإخوان المسلمين.

أولًا، توضح المؤلفة أن الجيش المصري تطور ليغدو فصيلًا من الطبقة الرأسمالية. فرغم كونه أحد أقوى المؤسسات المصرية في عهد عبد الناصر؛ إلا أن هزيمة حرب 1967 قللت بشكل كبير من النفوذ السياسي للجيش. ومن ثم، خفّض السادات حجم وميزانية القوات المسلحة، مع إشراك الجيش في اقتصاد الانفتاح –كاستراتيجية لمنع الانقلاب. بعد كل ذلك، منح توفير الاستقلال المالي للقوات المسلحة القدرة للسادات على تقليص عسكرة الدولة، مع تجنب القطيعة الكاملة بين الحكومة والجيش. وفي ظل حكم مبارك، بحسب المؤلفة، رأى الجيش أن كلا من نفوذه الاقتصادي والسياسي قد عاودا النمو مجددًا؛ لذا تمكن الجيش، في خضم أزمة الغذاء في 2007، من تعزيز ما يناله من الدعم الشعبي وأن يُميّز نفسه عن النظام. أو وفقًا لجويا: «بينما كان الجيش يخبز للفقراء، كانت أجهزة الأمن الداخلي التابعة للنظام تضيق الخناق على المتظاهرين والعمال المضربين عن العمل».[4]

كما تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من التكيف بدورها، حيث رسخت نفسها كفصيل طموح من الطبقة الرأسمالية. في أعقاب محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس عبد الناصر في 1954، ضيّق النظام الخناق على جماعة الإخوان المسلمين؛ وهو ما أجبر العديد من أعضائها على اللجوء للمنفى. مجددًا، كانت سياسة الانفتاح التي اتبعها السادات هي التي فتحت الباب للمشاركة الاقتصادية؛ باستخدام الإخوان المسلمين المنفيين في دول الخليج لجلب الاستثمارات. وفي أعقاب تفكك الدولة الناصرية؛ تدخلت جماعة الإخوان المسلمين لملء الفراغ، ووفرت الخدمات الاجتماعية للطبقات الفقيرة المهملة كنتيجة للإصلاحات النيوليبرالية التي انتهجها كلا من السادات ومبارك. ومن الجلي أن سقوط الأخير في 2011 قد أدى فقط إلى توسيع الفراغ في السلطة. مع ذلك، فإن المحاولة اللاحقة للإخوان المسلمين لزيادة نفوذها تعارضت مع مصالح الجيش. وفيما تقع أحداث ما بعد عام 2011 خارج نطاق الكتاب؛ فإن أي قاريء على دراية بما شهده عام 2013؛ سيتمكن من استيعاب الآثار المترتبة على تحليل جويا.

من زاوية أخرى، ورغم أن الجيش وجماعة الإخوان المسلمين لعبا دورًا جوهريًا في أحداث 2011، فإن أي منهما لم يُحرّض على التظاهر. بدلًا من ذلك، بدأت الاحتجاجات التي أطاحت بالنظام في الأساس على مستوى القواعد الشعبية. في الفصلين الأخيرين من الكتاب، تُفسّر المؤلفة كيف أدت السياسات النيوليبرالية في نهاية المطاف إلى عزل الطبقة العاملة والفلاحين في مصر عن النظام. لقد أدى نزع الملكية في الريف، الذي تجلى في عمليات الإخلاء القسري والإيجارات الباهظة، إلى أعمال عنف مرتبطة بالأراضي وتآكل الدعم الريفي للنظام. في أواخر العقد الأول من القرن الحالي، وفي أعقاب عمليات الخصخصة واسعة النطاق وإصلاحات في سوق العمل؛ اشتدت الصراعات الطبقية بالقدر نفسه في المدن الصناعية المصرية، حيث أصبح هناك جيل جديد من العمال يُقدم على الإضرابات بشكل متزايد، الأمر الذي كان بمثابة إشارة على «بداية نهاية نظام مبارك».[5]

إن كتاب جذور الثورة بينما يتيح فهمًا أعمق للاقتصاد السياسي المصري؛ إلا أن مزاياه لا تقف عند هذا الحد، إذ تدحض آنجيلا جويا –بشكل حازم– الافتراضات القائمة على أساس توصيات السياسة الصادرة عن المؤسسات المالية الدولية، وتحديدًا الافتراض بأن تحرير الاقتصاد يؤدي بالضرورة إلى التحول الديمقراطي. ويحمل هذا التحليل في طياته تداعيات مرتبطة بالنظرية المزعومة للسلطوية المرنة، ووفقًا لها، لم تنفذ الطبقة الحاكمة الإصلاحات الاقتصادية كما ينبغي، فضلًا عن كونها استمالت فئة جديدة من رجال الأعمال من خلال الفساد والمحسوبية. بدلًا من ذلك، تقدم جويا حجة مقنعة تدعي أن هذا التحليل يبالغ في تبسيط الوضع، وأن الإصلاحات النيوليبرالية عززت بالفعل الطبقة الحاكمة في مصر، وأن النيوليبرالية نفسها هي التي أحبطت في الواقع المساعي الحقيقية لإرساء الديمقراطية.

يُثير كتاب جويا، المنشور في عام 2020، أسئلة وثيقة الصلة بدور المؤسسات المالية الدولية في دفع أو عرقلة عملية التحول الديمقراطي في جميع أنحاء العالم. كما يطرح أسئلة تتعلق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي المعاصر في مصر. في عام 2016، تمكّن النظام القمعي لعبد الفتاح السيسي من تأمين قرض مدته ثلاث سنوات من صندوق النقد الدولي، وذلك في مقابل خفض الدعم وتخفيض قيمة العملة والخصخصة. من ناحية، فإن نسبة البطالة في مصر شهدت انخفاضًا خلال العام الماضي.[6] وفي الوقت ذاته، يعيش واحد من كل ثلاثة مصريين تقريبًا تحت خط الفقر، ولا تزال هناك فجوة في عدم المساواة. وهكذا، بعد مرور عقد كامل على سقوط مبارك، فإن جذور الثورة لا تزال كامنة في الأعماق. وفي هذا الإطار، نوصي بقراءة كتاب جويا للطلاب والمهنيين المهتمين بالاقتصاد السياسي المصري، وكذلك الأكاديميين الذين تتناول أبحاثهم العلاقة بين النيوليبرالية والتحول الديمقراطي.

[1] فهمي، حازم (2012). منظور أولي تجاه «شتاء السخط»: الأسباب الجذرية للثورة المصرية (An Initial Perspective on «The Winter of Discontent»: The Root Causes of the Egyptian Revolution). البحوث الاجتماعية 79 (2). ص ص 349-376. تاريخ الاطلاع في 16 مارس 2021، https://www.jstor.org/stable/23350069.
[2] جويا، أنجيلا (2020). جذور الثورة – الاقتصاد السياسي لمصر من عبد الناصر حتى مبارك (The Roots of Revolt – A Political Economy of Egypt from Nasser to Mubarak). (كامبريدج: مطبوعات جامعة كامبريدج). ص 76.
[3] هارفي، ديفيد (2003). الإمبريالية الجديدة (The New Imperialism). (أوكسفورد: مطبوعات جامعة أوكسفورد). ص 145
[4] جويا، أنجيلا (2020). جذور الثورة.
[5] المصدر السابق. ص 194.
[6] تاريخ الاطلاع في 16 مارس 2021، https://tradingeconomics.com/egypt/unemployment-rate.

Read this post in: English

اظهر المزيد

سيدريك دهونت

سيدريك دونت هو حقوقي سابق في مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ومتدرب كمحامٍ في السجل القانوني في بروكسل. يحمل درجتي ماجستير: واحدة في القانون من جامعة لوفان الكاثوليكية (KU Leuven)والأخرى في الديمقراطية العربية وحقوق الإنسان من جامعة القديس جوزيف في بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى