مراجعات كتب

مراجعة كتاب «حقوق الإنسان للبراغماتيين: القوة الاجتماعية في الأزمنة الحديثة» لجاك سنايدر

حمل هذا المقال كبي دي إف

الإشارة المرجعية: هيكس، نيل (2022). مراجعة كتاب «حقوق الإنسان للبراغماتيين: القوة الاجتماعية في الأزمنة الحديثة» لجاك سنايدر. رواق عربي، 27 (3)، 35-37. https://doi.org/10.53833/GGPI4289

في هذا الكتاب الجديد القيّم،[1] يقدّم أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا جاك سنايدر، خُلاصة عشرين عامًا من العمل الأكاديمي في مجال حقوق الإنسان. وبشكل شيق، يتجاوز سنايدر بعض الانتقادات، الأكثر سلبية، التي اعتبرت أن حقوق الإنسان قد بلغت «أزمان نهايتها»،[2] مقدمًا أطروحة قوية بشأن ضرورة السعي لتحقيق مزيد من التقدم في مسار إعمال حقوق الإنسان؛ إذا كانت المجتمعات تريد تحقيق نتائج أفضل للناس. وفي الوقت نفسه، فإنه يوجه للممارسات التقليدية لحركة حقوق الإنسان انتقادات قوية، قد تمثل قراءتها، والتعاطي معها، تحديًا في نظر العاملين بالحكومات والمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان، على الصعيدين المحلي والدولي.

يرى سنايدر –عن حق– أن العديد من الممارسات التقليدية لا تؤدي إلى النتائج المرجوة، ويدعو القراء لتدبّر الأدلة العملية والمعلومات ذات الصلة التي تبرهن على أن حقوق الإنسان والديمقراطية آخذان في الانتكاس؛ فالنظم السلطوية أصبحت أقوى، والنظم الديمقراطية الجديدة الهشّة تتحول إلى ديمقراطيات غير حرة أو ديكتاتوريات، وحتى الديمقراطيات العريقة مهددة بصعود الحركات المناهضة للديمقراطية والمعادية للكثير من مبادئ حقوق الإنسان.

يسلّط سنايدر الضوء على عدد من القضايا الأساسية، التي تشهد انهيارًا في عملية الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية. ويتضمن ذلك توقيت الانتخابات ما بعد السلطوية وما بعد النزاع، في ظل التغاضي عن وضع ضمانات مؤسسية للحقوق الأساسية والمبادئ الديمقراطية. إلى جانب التعامل مع الجرائم والانتهاكات للنظم السابقة بشكل لا يفاقم الانقسامات والنزاعات المجتمعية.

تستند ملاحظات سنايدر إلى بحوثه التي أجراها في كل من الصين وهونغ كونغ ومصر وأندونيسيا وميانمار وتركيا وأوكرانيا. واعتمد في عرض تحليله على إطار تاريخي، يشمل الحركات الساعية لإعمال الديمقراطية والإصلاحات الحقوقية من الثورات الأوروبية لعام 1848 وأواسط القرن التاسع عشر، مرورًا بالموجة الثالثة للديمقراطية في جنوب أوروبا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية في النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الثورات الملونة والربيع العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين.

يقدم سنايدر الحجة بأن حركة حقوق الإنسان المعاصرة بلغت مرحلة انسداد وتعطّل نظرًا لاعتمادها على مناهج كانت فعالة في أزمنة «اللحظة أحادية القطبية»، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989، وهي لحظة لم تشهد ظهور تحديات تُذكر للديمقراطية الليبرالية –المستندة إلى نظام القانون الدولي المعتمد على القواعد– كنظام مُفضّل للحكم. فحسبما توضح أحداث الأعوام الثلاثين الأخيرة؛ كانت لحظة القطبية الأحادية قصيرة الأجل، وكأنها استثناء على القاعدة، إننا نعيش حاليًا في زمن «التوازن» بين القوى الديمقراطية والقوى غير الديمقراطية. على المستوى الدولي، تجاهر الدول السلطوية بتحدي قيم الليبرالية، فيما نواجه على المستوى المحلي في بعض الدول انقسامًا بين الحركات السياسية الليبرالية وغير الليبرالية، سواء في دول الشمال المتقدمة أو في أغلب دول الجنوب العالمي مثل الهند والبرازيل. كذا سحقت السلطوية حركات حقوق الإنسان والديمقراطية المحلية في غالبية دول الجنوب، بما في ذلك المنطقة العربية.

إن «الوصفة» التي يقترحها سنايدر لتجاوز هذا الانسداد في جهود إعمال حقوق الإنسان تتمثل في «البراغماتية» القائمة على مبدأ «القوة تقود والحقوق تتبعها»، ويقصد بها أن الحقوق تسود حينما تصطف مع مصالح المجموعات المحلية النافذة والقوية. ومن ثم، يتعين على المدافعين عن حقوق الإنسان إعداد استراتيجيات لأجل «وضع الاشتراطات الاجتماعية اللازمة لتمكين المجموعات الأساسية بالمجتمع من دعم المؤسسات التمثيلية والشاملة لجميع الأطراف، وبالتالي تعزيز استفادتها منها». بينما يدعو النشطاء لعدم النظر إلى الصبر والنفعية كخصال متعارضة مع مبادئ حقوق الإنسان؛ وإنما كــ«أدوات لجعل المُثل العليا واقعًا».

ويوصي سنايدر بتغييرات ضرورية في ممارسات حركة حقوق الإنسان، محذرًا من عدم وجود «وصفة سحرية تجعلنا نصل مباشرة لإعمال الحقوق عبر تفعيل القانون والمثل الأخلاقية واجتياز السياسة»، موضحًا أن حركة حقوق الإنسان وحدها أضيق وأصغر من أن تكون «المحرك الأساسي» للتغيير التقدمي. إن حقوق الإنسان بإمكانها تقديم صورة لما يطمح إليه الناس عن التغيير، إلا أن تحقيقها يتطلب «ثلاثة محاور متضافرة»؛ إذ تعمل حركة حقوق الإنسان بالتنسيق مع حركة جماهيرية، إلى جانب أحزاب سياسية تقدمية وبراغماتية، لديها القدرة على اكتساب وممارسة السلطة.

من الجدير بالملاحظة أن عدة دول خاضعة لقادة سلطويين فهمت هذا الأمر، واتخذت إجراءات وقائية قوية؛ لمنع تطور حركات جماهيرية أو معارضة قوية من الأحزاب السياسية. إلا أن سنايدر يؤمن بأن الدول الديمقراطية عمومًا، والملتزمة أكثر بحقوق الإنسان، تُقدم على مدار الوقت نتائج أفضل للمواطنين، ومن ثم يمكن للمناصرين «إقناع الناس من خلال إظهار أن حقوق الإنسان تقدم نتائج جيدة». بينما تواجه الدول السلطوية صعوبة في الهروب من تناقضاتها الداخلية واللامساواة ومشكلات الحكم والفساد، والتي تشتد حينما تكون الدول «لديها قدم في الاقتصاد السياسي للرأسمالية العالمية»، فيما ترتكز قدمها الأخرى على نظام محلي يعتمد على المحاباة والمحسوبية، وليس سيادة القانون.

يقترح سنايدر أن حركة حقوق الإنسان باعتبارها عاجزة عن قيادة التغيير الضروري، ينبغي عليها دمج مُثلها في الحركات الجماهيرية ذات الصدى المحلي، بالتركيز على قيمة «الخطاب القيمي» للناشطية الحقوقية. مشيرًا لأمثلة من الموجة الثالثة للديمقراطية، عندما ضمت الحركات الجماهيرية الدافعة بالتغيير الديمقراطي قيادات دينية، في أمريكا اللاتينية وبولندا وإندونيسيا. كما ظهرت صور ناجحة لهذا الأمر في منطقة الشرق الأوسط، وبصورة خاصة في تركيا وتونس، إلا أن التجربة كانت أقل نجاحًا في مصر؛ إذ استغلت المؤسسة العسكرية التوترات بين القوى العلمانية والقوى الدينية المعارضة لمبارك، وعاودت فرض السلطوية مستغلةً السردية السائدة التي صادفت صدى جماهيري، ومفادها الحاجة إلى «إنقاذ» البلاد من «التطرف الديني والإرهاب».

لعل النقد الأقسى عند سنايدر حول نُهُج عمل حركة حقوق الإنسان، هو المتعلق بنقاشه لمنهج تحديد ووصم المنتهكين، حين يكشف باحثو حقوق الإنسان انتهاكات مروّعة ارتكبتها حكومات أو جهات أخرى ويسعون لحشد الضغوط؛ من أجل منع ارتكاب المزيد منها، والتشجيع على الالتزام بمعايير حقوق الإنسان.

إن الكثير من المنظمات الحقوقية الناشطة من الجنوب العالمي تعي جيدًا أن الضغط من جانب الدول الليبرالية القائدة نادرًا ما يكون فعالًا في منع الانتهاكات في دولهم. هناك سببان لهذا؛ أن الدول الليبرالية قد فقدت مصداقيتها كحامي دولي لحقوق الإنسان بسبب التزامها الانتقائي بأفكار حقوق الإنسان، إلى جانب إخفاقاتها الحقوقية الخاصة بها في مجالات مثل الهجرة واللامساواة. وكما أوضح سنايدر، فإن الانتقادات من أطراف خارجية غالبًا ما يؤدي لنتائج عكسية. إذ أصبح بعض القادة قادرون على استخدام هذه الانتقادات الخارجية في حشد الدعم لأنفسهم داخليًا. رغم هذا، فإن منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية تواصل الاعتماد على حشد الضغط الدولي، بما في ذلك وصم المنتهكين، باعتباره أداة هامة للمناصرة.

حريّ بتحليل سنايدر أن يدفعنا لإعادة النظر في هذا المنهج الذي يلجأ إليه الممارسون للنشاط الحقوقي. فبينما تبذل منظمات حقوق الإنسان جهودًا لتحميل الجناة المسئولية الفردية عن الانتهاكات عوضًا عن الدولة بأكملها، كما يلاحظ سنايدر، فمن الصعب وصم النخب دون وصم عموم السكان. كما أن المناصرين الحقوقيين كثيرًا ما يفترضون أنه بسبب عالمية القيم التي يدعمونها، فهي تستحق بالتالي دعمًا عالميًا. إن بعض القادة السياسيية يشككون –بنجاح متزايد– في مدى صحة بعض هذه القيم، ما يجعلهم هم ومناصروهم محصنين من الوصم على أعمال لا يعتبرونها خاطئة. لقد أصبح التذرع باختلاف الثقافات لنزع المصداقية عن الإصلاحات السياساتية التقدمية أسلوبًا ينتهجه الكثيرون، وهو فعال.

يلاحظ سنايدر أن النموذج الدائري المؤثر لتعميم حقوق الإنسان[3] أقر بأن «مقاومة [تعميم حقوق الإنسان] متوقع أن تدوم في ظل ظروف مناوئة عامة»[4] بما يتضمن النظم الأوتوقراطية. من المؤسف أن هذه الظروف السيئة تنتشر عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

يشدد سنايدر على أن «حقوق الإنسان مهمة لدرجة أنها يجب الترويج لها بفعالية، لا أن يتم تعريضها للخطر بسبب العواقب، غير المقصودة، لمنهج وصم المنتهكين». مشيرًا إلى بعض السبل التي قد تكون أكثر فعالية للترويج لحقوق الإنسان، وتتضمن التركيز الأوضح على مناهضة الفساد كقضية حقوقية، يراها أداة واعدة للحشد الجماهيري. إن سنايدر محق قطعًا في دعوته الحركة الحقوقية لإعادة النظر في افتراضاتها التقليدية، وفي سبل عملها التي ألفتها. إنه يطالب بالبحث عن قيم حقوقية تتعاطى مع اهتمامات الأغلبية والجماعات المؤثرة والقوية. مكافحة الفساد هي أحد هذه القضايا محط الاهتمام، والمساحة المشتركة بين حقوق الإنسان والعدالة البيئية قد تكون قضية أخرى، كما يظهر من مؤتمر الدول الأطراف الأخير في مصر (COP27).

في كلمة الغلاف في كتاب سنايدر مقولة تفيد بأن الكتاب «يقلب –بشكل بناء– رأسًا على عقب، الإطار المألوف والتقليدي لأعمال مناصرة حقوق الإنسان». سوف يخبرنا الزمن إن كان الكتاب سيتمكن حقًا من إنجاز هذا الهدف الطموح، لكنه قطعًا يستحق اعتباره بداية لنقاش تأخر بدأه كثيرًا.

هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي

[1] سنايدر، جاك (2022). «حقوق الإنسان للبراغماتيين: القوة الاجتماعية في الأزمنة الحديثة» (Human Rights for Pragmatists, Social Power in Modern Times). نيوجيرسي، مطبوعات برنستون الجامعية.
[2] هوبغود، ستيفن (2013). «أزمان نهاية حقوق الإنسان» (The End Times of Human Rights). نيويورك، مطبوعات كورنيل الجامعية.
[3] ريس، توماس، وروب، ستيفن س. وسكينك، كاثرين (1999). «قوة حقوق الإنسان: المعايير الدولية والتغيير المحلي» (The Power of Human Rights: International Norms and Domestic Change). كامبريدج، مطبوعات كامبريدج الجامعية
[4]  ريس، توماس، وروب، ستيفن س. وسكينك، كاثرين (2013). «القوة المستمرة لحقوق الإنسان: من الالتزام إلى الإذعان» (The Persistent Power of Human Rights: From Commitment to Compliance). كامبريدج، مطبوعات كامبريدج الجامعية.

Read this post in: English

اظهر المزيد

نيل هيكس

مدير أول المناصرة في مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى