رؤى: مهمات الدفاع عن حقوق اﻹنسان في مصر في سياق اﻷزمة

حمل هذا المقال كبي دي إف

تهدف هذه الورقة إلى رصد وتحليل طرق استجابة منظمات حقوق اﻹنسان المصرية للعمل في ظل نظام سياسي مغلق سلطوي خلال اﻷعوام الخمسة السابقة. ترى الورقة أنه على الرغم من التأثير الكيفي والكمي للضربات اﻷمنية غير المسبوقة، التي تعرض لها المدافعون والمدافعات عن حقوق الإنسان ومنظماتهم المستقلة، على عمل ونشاط حقوق اﻹنسان في مصر؛ إلا أن قطاعات من الحركة استطاعت تطوير استراتيجيات وتكتيكات لمقاومة التحديات الجديدة في ظل اﻷزمة الحالية.

في هذا الإطار، تسعى الورقة إلى رصد ومناقشة هذه الاستراتيجيات والتكتيكات، كما تبحث الفرص والمجالات المتاحة أمام المنخرطين في هذه الحركة؛ لتعظيم الاستفادة من هذا التوجه، والتخفيف من التداعيات الكارثية ﻷزمة حقوق اﻹنسان المتصاعدة في البلاد. وذلك بالاستفادة من خبرات سابقة مر بها نشطاء حقوق اﻹنسان في دول سلطوية أخرى عانت في فترات سابقة من تجربة إغلاق المجال أمام العمل السياسي والمدني.

تبدأ الورقة بتحليل الحصار اﻷمني المفروض على حركة حقوق اﻹنسان المصرية وتداعياته على عمل هذه المنظمات، ثم تحليل طرق استجابة حركة حقوق اﻹنسان وكيفية تفاعلها وتكيفها مع اﻷزمة الراهنة لحقوق اﻹنسان. وذلك في إطار حساب التكلفة السياسية واﻷمنية، في مواجهة التحديات الماثلة أمام المنظمات الحقوقية كالاتساق في الدفاع عن حقوق الإنسان، والانقسامات البينية داخل حركة حقوق اﻹنسان، والاستقطابات الحادة التي شهدها المجتمع المصري أعقاب اﻹطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين، وما تلا ذلك من عودة متسارعة للحكم السلطوي، وتزايد سطوة وتغلغل اﻷجهزة اﻷمنية في مختلف ميادين العمل العام، مع وجود مؤشرات لمساعي الدولة السلطوية الصاعدة في تهديد تماسك حركة حقوق اﻹنسان، وشلّ قدرتها على تطوير فهم سياسي مشترك لواقع اﻷزمة والاستجابة لها، أو الحفاظ على استدامة اﻷطر التنسيقية المحلية التي تجمعها.

تتطرق الورقة أيضًا لما يدور من جدل حول أدوار نشطاء حقوق الإنسان في الداخل والخارج؛ في ضوء الوضع الراهن وتحليل ما يمكن أن يقدمه التكامل وتوزيع اﻷدوار بين الداخل والخارج لمواجهة اﻷزمة الحالية. وأخيرًا تناقش الورقة مسئوليات حركة حقوق اﻹنسان وأعضائها في طرح البدائل والتوصل لتفاهمات للتعامل مع اﻷزمة الراهنة.

اختيار مناقشة هذه المحاور يرتبط بتفاعل منظمات حقوق الإنسان مع التحديات السياسية الراهنة في مصر. فالتزايد غير المسبوق في موجات التضييق والقمع التي تستهدف منظمات حقوق الإنسان والعاملين فيها، فرض نقاشًا ووجهات نظر متباينة حول فرص وسبل استمرار صمود الحركة. من ناحية أخرى فإن تزايد أعداد النشطاء المصريين الذين غادروا البلاد فرض هو الآخر نقاشًا جديدًا لم تعهده الحركة الحقوقية من قبل حول اﻷدوار المحتملة للنشطاء في الخارج، وإمكانيات الاستفادة من المساحات والفرص المتاحة لتوزيع اﻷدوار بين الداخل والخارج.

إن أزمة حقوق اﻹنسان الحالية في مصر فرضت أدوارًا ومهام جديدة على المشتغلين في الحركة لطرح بدائل وبناء تفاهمات لتجاوز اﻷزمة. هذه اﻷدوار بدأت في التبلور بشكل جنيني لكنها لا تزال بحاجة لمزيد من النضج. ويعتمد التحليل في هذه الورقة على المتابعة الدقيقة لإنتاج وأنشطة منظمات حقوق اﻹنسان، والمدافعين والمدافعات عن حقوق اﻹنسان في مصر، باﻹضافة للخبرة العملية المباشرة لكاتب الورقة باعتباره أحد المنخرطين في هذه الحركة خلال العقدين اﻷخيرين، وما أتاحه ذلك من احتكاك ولقاءات مباشرة مع كثير من النشطاء داخل وخارج مصر.

طبيعة ودوافع الحصار اﻷمني لحركة حقوق اﻹنسان

تزايد استهداف النشاط المؤسسي والفردي للدفاع عن حقوق اﻹنسان في مصر بشكل متسارع منذ عام 2014.[1] فعلى المستوى القضائي بدأت التحقيقات الجنائية في أكبر قضية استهدفت قيادات وأعضاء أكثر من 37 منظمة حقوقية، ضمت بينها أكثر المنظمات استقلالية ونشاطًا في البلاد، ووجهت لهم تهمًا بتلقي تمويلات أجنبية دون موافقة السلطات، والعمل دون ترخيص، فضلًا عن اتهامات أخرى تتعلق بالإضرار باﻷمن العام والتخابر مع جهات أجنبية. وفي إطار هذه القضية صدرت قرارات بمنع سفر عشرات من أبرز المدافعين والمدافعات عن حقوق اﻹنسان، وتم التحفظ على اﻷموال واﻷملاك الشخصية والمؤسساتية لبعضهم.[2]

وعلى المستوى التشريعي، تم تغليظ القيود المنظمة لعمل المنظمات غير الحكومية،[3] وتغليظ عقوبات تلقي التمويل اﻷجنبي.[4] من ناحية أخرى تعرض عدد كبير من النشطاء واﻹعلامين والمحامين والنقابين وغيرهم من المهتمين بالدفاع عن حقوق اﻹنسان لاعتقالات تعسفية طويلة المدة، ومحاكمات ذات طبيعة سياسية. وقد وصلت الحملة ضد الحقوقيين إلى توجيه تهديدات مباشرة بالقتل ضد بعضهم داخل وخارج مصر، والتجسس على أنشطتهم وتحركاتهم واتصالاتهم داخل البلاد وخارجها.[5]

لقد تسارعت وتوسعت الحملة اﻷمنية والقضائية ضد المشتغلين في مجال حقوق اﻹنسان خلال أعوام الأربعة اﻷخيرة، إلا أن اﻷحداث تشير إلى أن حصار الحركة الحقوقية كان جزءً من خطة قوى الثورة المضادة من اﻷجهزة اﻷمنية وبشكل خاص المؤسسة العسكرية وأجهزتها الاستخباراتية، التي تشكل النواة اﻷساسية لما عرف بأجهزة الدولة العميقة،[6] وذلك منذ الشهور اﻷولى التي أعقبت رحيل الرئيس مبارك عن السلطة. إذ هيمنت هذه القوى على هندسة الترتيبات التشريعية والدستورية والسياسية للمرحلة الانتقالية بالطريقة التي تسمح بإجهاض تدريجي لعملية التحول الديمقراطي، ومن ثم عودتها مرة أخرى –في مرحلة لاحقة– لحكم البلاد، وهو ما تحقق فعليًا مع اﻹطاحة بالرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في 3 يوليو 2013.

بدأت هذه القوى المناوئة للثورة فعليًا في الملاحقات القضائية، والتحقيقات الجنائية وحملات التشويه اﻹعلامي في النصف الثاني من عام 2011، وركزت في مرحلتها اﻷولى على المنظمات الحقوقية الدولية العاملة في مصر، مما أسفر عن صدور أحكام بالسجن تتراوح بين عام وخمسة أعوام ضد 43 أجنبي ومصري من المشتغلين في هذه المنظمات في يونيو 2013، بتهم التمويل اﻷجنبي غير القانوني، والعمل بدون رخصة.[7] وعلى عكس تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس والتي افتتحت ترتيباتها بتشريع جديد يضمن حرية تكوين وإدارة الجمعيات، تجسدت أجندة حصار العمل الحقوقي في مصر في عدم نجاح أي محاولات لإصلاح وتحرير اﻹطار التشريعي الحاكم لعمل المنظمات غير الحكومية المصرية واﻷجنبية خلال المراحل الانتقالية والتي أعقبت رحيل الرئيس السابق حسني مبارك في فبراير2011، وحتى اﻹطاحة بالرئيس محمد مرسي في يونيو 2013. ويعزى فشل أول برلمان وأول سلطة تنفيذية منتخبة بعد الثورة في تمرير إطار جديد ليبرالي لعمل المنظمات غير الحكومية في الوصول لتوافق بين أجندة الدولة العميقة في حصار الحركة الحقوقية، وأجندة جماعة اﻹخوان المسلمين وقت حكمها للبلاد.[8]

هذا التصدي المنهجي لحركة حقوق اﻹنسان في مصر أكد على وعي أجهزة الدولة العميقة بفعالية أدوار هذه الحركة ومساهمتها التراكمية في التمهيد للحراك الشعبي في يناير 2011، كم خلال عمل متواصل لسنوات، خاصةً مع توسع أنشطتها الدعوية والتوثيقية والقانونية المحلية والدولية، بشكل كيفي وكمي خلال عقد اﻷلفينيات، ونجاحها في استقطاب أجيال من الشباب، ذوي الخلفيات المهنية والاجتماعية والأيديولوجية المختلفة، تولى بعضهم أدوارًا قيادية في مراحل لاحقة في حركات سياسية واحتجاجية مختلفة.

هذا اﻷمر لم يغب عن تخطيط اﻷجهزة اﻷمنية عندما اقتحمت في فبراير 2011 مقر مركز هشام مبارك للقانون، واعتقلت بعض قيادات وأعضاء المركز وعلى رأسهم المحامي القدير الراحل أحمد سيف اﻹسلام. وقد تمت عملية الاقتحام بواسطة المخابرات الحربية وتحت إشراف مباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي ترأس الجهاز آنذاك، وجرى استهداف المركز بسبب نشاطه في رصد انتهاكات وجرائم السلطة ضد المتظاهرين خلال ثورة يناير، وتقديم الدعم القانوني للمعتقلين.

استمرت منظمات حقوق اﻹنسان المصرية في التنديد والكشف عن محاولات قوى الثورة المضادة للالتفاف على عملية التحول الديمقراطي في مصر، ومواصلة جرائم وانتهاكات حقوق اﻹنسان خلال المراحل الانتقالية المختلفة التي أعقبت الثورة في 2011، وحتى وصول عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم في يونيو 2014. وهو ما مثّل سببًا رئيسيًا أخرًا لدى المؤسسة العسكرية واﻷجهزة اﻷمنية لاتخاذ قرار استراتيجي بحصار وإنهاء النشاط الحقوقي المستقل في البلاد، وإعادة هيكلته والسيطرة على مخرجاته؛ عبر تسهيل تأسيس قطاع جديد من المنظمات الحقوقية المؤيد والمبرر لخطاب الدولة. فضلًا عن أن حصار النشاط الحقوقي منذ عام 2014 هو جزء من توجهات منهجية لنخبة نظام حكم عبد الفتاح السيسي في اتخاذ إجراءات وقائية في كافة مناحي العمل السياسي واﻹعلامي والمدني والنقابي، لتقويض وإجهاض أي حراك شعبي جديد، والقضاء على أي خصوم محتملين لنظامه السلطوي الصاعد.[9]

انعكاسات الحصار اﻷمني على النشاط الحقوقي

تركت اﻹجراءات القضائية واﻷمنية ضد منظمات حقوق اﻹنسان عددًا من التداعيات الجوهرية على كم ونوع نشاط منظمات حقوق اﻹنسان في مصر. حيث استجاب قطاع داخل منظمات حقوق الإنسان لهذا الوضع من خلال إجراءات للتكيف مع المتغيرات اﻷمنية والتشريعية الجديدة؛ بغرض المقاومة من أجل استعادة مساحات داخل المجال العام عبر وضع تكتيكات مختلفة لحماية المؤسسات والعاملين فيها، مع استمرار تقديم الدعم للضحايا، وتوثيق ورصد وفضح الانتهاكات، حتى وإن كان على نطاق محدود، وتوزيع الأدوار بين أعضاء هذه المنظمات داخل وخارج البلاد.[10]

اتجهت بعض المنظمات المصرية لتجميد أنشطتها العلنية بشكل كامل، مع استمرار حرص قياداتها وأعضائها على الاحتفاظ بمستوى من التنسيق والحوار والتعاون غير الرسمي بين قيادات هذه المنظمات وباقي فعاليات حقوق اﻹنسان في مصر وخارجها، وبعض المنظمات التي جمدت عملها رسميًا داخل البلاد احتفظت بفريق عمل محدود يعمل بشكل استشاري ونقلت أعمالها بالكامل خارج البلاد، بما يتحه هذا اﻹجراء من حرية واستقلالية الحركة.

كما شهدت السنوات الأخيرة تأسيس منظمات حقوقية جديدة في الخارج تضم في عضويتها وبين فريق عملها نشطاء وكوادر من داخل البلاد. وهناك قطاع محدود من المنظمات الحقوقية استمر في العمل بشكل علني متحملاً كافة المخاطر والتهديدات ثمنًا لذلك الاختيار الصعب.

وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي تعمل في إطارها هذه المنظمات التي اختارت نهج المقاومة؛ فقد أنتجت خلال السنوات اﻷخيرة سلسلة من التقارير الهامة والبيانات في مجالات شديدة الحساسية من الناحية اﻷمنية والسياسية مثل شيوع جرائم التعذيب، والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون، والتوسع في استخدام المحاكم العسكرية، والتوظيف المنهجي لعقوبة اﻹعدام في قضايا سياسية وبعد محاكمات مسيسة وجائرة،[11] كما استمر محامو المنظمات في تقديم مساعدات قانونية لسجناء الرأي والمعتقلين السياسيين وضحايا التعذيب، واللجوء للتقاضي المحلي أمام المحكمة الدستورية، والقضاء اﻹداري، وأحيانًا الدولي بالتعاون مع منظمات حقوقية دولية. وقد اعتمد اﻹعلام الغربي، وأجهزة حقوق اﻹنسان باﻷمم المتحدة على بيانات وإحصاءات هذه المنظمات في تحليل تطورات حقوق اﻹنسان تحت حكم عبد الفتاح السيسي.[12]

نتج عن الإجراءات الموجهة ضد منظمات حقوق اﻹنسان صعوبة في تنسيق المواقف واﻷعمال المشتركة بين المنظمات الحقوقية، حيث انخفض مستوى التنسيق بشكل كبير خلال السنتين اﻷخيرتين. إما لتردد كثير من الجمعيات في الانضمام العلني لبيانات وتقارير قد تعرّض أعضائها لمزيد من اﻹجراءات الانتقامية، أو لتغير التوجهات السياسية لبعض المنظمات، واختلافها في القراءة السياسية للأحداث الجارية في البلاد، وتباين مواقفها إزاء تدهور حالة حقوق الإنسان. لكن برغم من ذلك حافظت بعض المنظمات الحقوقية على مستوى التنسيق في المواقف العلنية، خاصةً مع انضمام جمعيات شبابية جديدة تضم في عضويتها كوادر داخل وخارج مصر. كذلك انخفض مستوى التنسيق والتواصل بين المنظمات الحقوقية والقوى السياسية المعارضة اليسارية والليبرالية، خاصةً مع تردد كثير من هذه القوى في كثير من المناسبات في إدانة ممارسات السلطة الحاكمة. لكن لم ينته بشكل كلي إذ نشهد استمرار تأسيس بعض المبادرات والتنسيقيات المحدودة مثل تعاون بعض الحقوقيين مع الحركة المدنية الديمقراطية،[13] أو تنظيم أنشطة نقابية داعمة للحريات، وإصدار بيانات مشتركة من حين لآخر.

من ناحية أخرى دفعت قيود البيئة السياسية الحالية في مصر عدد قليل من المنظمات الحقوقية للدفاع عن منهج آخر للتكيف مع اﻷوضاع القائمة، ليس فقط عبر خفض نوعي لمستوى النشاط وتغيير طبيعته، لكن أيضًا عبر الابتعاد عن أنشطة من شأنها الصدام مع السلطة الحاكمة، وأحيانًا إدخال تغييرات في خطابها السياسي من شأنها الحفاظ على خطوط تواصل مع أجهزة الدولة السياسية واﻷمنية، واتجهت للتسجيل الرسمي تحت مظلة القانون الجديد المقيد لعمل الجمعيات اعتقادًا منها بأن هذه الإجراءات ستوفر لها القدرة على البقاء وتحمي أعضائها من اﻹجراءات القضائية المرتبطة بقضية التمويل اﻷجنبي رقم 173، وستحفظ مساهمتها ولو بشكل محدود في السياسات العامة للدولة.

على صعيد آخر، ازدهر النشاط المحلي والدولي للمنظمات غير الحكومية المساندة والمبررة لممارسات السلطة الحاكمة خلال السنوات اﻷخيرة. وقد بدأت هذه الفئة من المنظمات في الظهور في السنوات اﻷخيرة من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، لكنها انتعشت كمًا ونوعًا تحت حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، واستطاعت جذب تمويل جديد من الدول الحليفة لحكومته مثل اﻹمارات العربية المتحدة. وقد استغلت الدولة هذه المنظمات وأتاحت المجال أمام قياداتها للظهور في وسائل الإعلام لتشويه المنظمات الحقوقية المستقلة، وتبرير جرائم اﻷجهزة اﻷمنية، مثل الجرائم التي ارتكبت وقت فض اعتصام رابعة العدوية في أغسطس 2013، أو جريمتي الاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون.

وبشكل عام انخفض مستوى التمويل الممنوح لنشاط حقوق اﻹنسان كنتيجة مباشرة لتغليظ القيود اﻷمنية والقانونية على التمويل اﻷجنبي للمنظمات الحقوقية، ولم تسلم المنظمات الحقوقية المسجلة بشكل قانوني في إطار قانون الجمعيات اﻷهلية؛ حيث غالبًا ما ترفض الجهات اﻹدارية اتفاقات التمويل التي تبرمها هذه الجمعيات المسجلة مع الجهات المانحة. أيضًا يعود انخفاض مستوى التمويل لتردد كثير من الجهات المانحة إزاء المخاطرة بالعمل في مصر في الوقت الراهن، خاصةً مع تزايد الحملات اﻹعلامية التشويهية والتحريضية ضد بعض الجهات المانحة البارزة، وقد اتجه بعض المانحين لتغيير بعض أولوياتهم وتركيز مخصصاتهم في الدعم الطارئ المؤقت للجمعيات الحقوقية أو برامج الحماية والدعم القانوني للمدافعين والمدافعات عن حقوق اﻹنسان. لكن بعض المانحين، ومن أبرزهم الاتحاد اﻷوروبي، توافق مع التوجهات السياسية الجديدة في مصر، وأبدوا أولوية لدعم أنشطة ليس لها طابع سياسي أو صدامي، فضلًا عن التوسع في دعم جمعيات ذات أجندة داعمة للسلطة الحاكمة.

اتجاهات التكيّف وكلفة العمل الحقوقي

إن قرار السلطة الحاكمة في مصر أو غيرها من بلدان سلطوية في مرحلة ما بحصار أو غلق المجال أمام منظمات حقوق اﻹنسان، وهو الخيار الراهن للسلطة الحاكمة في مصر، يستهدف النشاط وإمكانات حركة حقوق اﻹنسان في التنظيم بشكل رئيسي سواء في الداخل أو الخارج. وقد أثبتت التجربة خلال السنوات اﻷخيرة أن قمع السلطة المصرية لم يفرق بين قوى معتدلة أو راديكالية، فجميع اﻷصوات النقدية تم استهدافها، بل إن حتى تلك الجمعيات المسجلة وفقًا لقانون الجمعيات المقيد للحريات لم تسلم من فرض القيود على تمويلها ونشاطها وإدارتها الداخلية. فمنهج التكيّف مع الوضع القائم عبر تجنب الاشتباك النقدي مع السجل الكارثي لحقوق اﻹنسان، ومحاولة بناء جسور للتواصل مع السلطات الحاكمة حتى ولو على حساب الرسالة الحقوقية التي من المفترض أن تقوم بها هذه المنظمات، لا يؤدي بالضرورة للحماية وخفض الكلفة، بل على العكس فإن تبني هذا المنهج يحمل مخاطر مؤسسية عميقة على الحركة الحقوقية على المدى البعيد من شأنها اﻹضرار بتماسك ونمو حركة حقوق الإنسان، واستيعاب وتنمية كوادرها.

لقد تعرّض الجيل اﻷول لمؤسسي حركة حقوق اﻹنسان المصرية، خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، لقمع وتضييق أمني، من جانب السلطة الحاكمة وقتها، وصل لحد كبير أثناء تولي اللواء زكي بدر مسئولية وزارة الداخلية المصرية بين عامي 1986و1990، وقد عُرف عنه العداء الشديد لنشطاء حقوق اﻹنسان وقوى المعارضة المصرية،[14] كما تعرضت الحركة وأعضائها في ذلك الوقت لمخاطر وتهديدات أمنية من قوى التطرف الديني خلال عقد التسعينيات نتيجة انتقاداتها لقوى العنف الديني، وتبنيها الدفاع عن حريات الدين والمعتقد، وحقوق اﻷقليات الدينية، واحتضانها للمفكرين اﻹسلامين اﻹصلاحيين. لكن نلاحظ أن استمرار  عمل نشطاء حقوق اﻹنسان في ذلك الوقت، وتبني تكتيكات مختلفة منها توظيف فعال للعلاقة مع منظمات حقوق اﻹنسان الدولية واﻹعلام اﻷجنبي، قد ساعد على استمرار ونمو هذه الحركة وانضمام أجيال جديدة. فلو كان خيار الحركة وقتها هو تجميد نشاطها والتكيف مع الواقع؛ ما كان لها أن تستمر وتنمو على النحو الذي وصلت له خلال العقد الأول من القرن الحالي.

إن العمل الحقوقي في ظل أنظمة سلطوية، لا تقبل بمبدأ حرية التنظيم وحرية الرأي والتعبير، لا يخلو من كلفة. ولا يمكن تجنب هذه الكلفة بشكل كامل سوى بالتوقف عن العمل كليةَ، أو التوافق الكامل مع السلطة المستبدة، لكن يمكن التخفيف من الكلفة عبر إجراءات أمنية لتأمين العاملين في مجال حقوق اﻹنسان. من ناحية أخرى فاختيار مقاومة الوضع القائم لم يمنع المنظمات الحقوقية من المبادرة وإبداء استعدادها للحوار مع السلطات الحاكمة لإيجاد حل للصدام، وذلك دون تخلي هذه المنظمات عن مواقفها النقدية المبدئية من ممارسات وجرائم النظام الحاكم.

تحدي الاتساق ومخاطر التوظيف السياسي لانقسامات الحركة

كان الاتساق في الدفاع عن حقوق اﻹنسان من التحديات التي واجهت الجيل الأول لحركة حقوق الإنسان المصرية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات. واتساق العمل الحقوقي يعني الدفاع عن جميع الضحايا بغض النظر عن التوجه السياسي أو الانحياز لجماعة دون اﻷخرى، أو الانتقائية في الدفاع عن الحقوق. مشاكل الاتساق في الدفاع عن حقوق الإنسان ليست جديدة في سياق تطور حركة حقوق اﻹنسان في مصر، فقد مثّل الموقف من الدفاع عن اﻹسلامين واحد من التحديات التي هددت تماسك حركة حقوق الإنسان في سنواتها اﻷولى، لكن استطاعت المنظمات اﻷم لهذه الحركة تجاوز هذا الانقسام وانتصرت للاتساق في تصديها للجرائم بحق المواطنين بصرف النظر عن توجههم الفكري والسياسي.

واجهت أيضًا الحركة تحدي الاتساق في قدرتها على التصدي لبعض القضايا الخلافية مثل الدفاع عن حقوق المثليين أو حقوق العقيدة، والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وقد أخذت الحركة وقتًا لتضييق الخلافات بين عناصرها تجاه هذه القضايا، وقد ساعد في ذلك انخراط أجيال جديدة من الحقوقيين في الحركة، وتزايد التفاعل مع المجتمع المدني العالمي، والتفاعل مع آليات حقوق الإنسان الدولية. فضلًا عن صعود أدوار جماعات مهمشة مثل المرأة واﻷقليات الدينية والمثليين في الدفاع عن حقوقهم، وطرح قضاياهم على أجندة المجتمع المدني. كما تجسدت الانتقائية في العمل الحقوقي في إطار نشاط اﻹسلاميين في مجال حقوق اﻹنسان، فالمنظمات الحقوقية التي أسستها جماعة اﻹخوان المسلمين دافعت عن معتقلي الجماعة، وروجت ﻷجندة الجماعة الفكرية المناوئة لما أتت به مواثيق حقوق اﻹنسان الدولية –خاصةً في مجالات حقوق المرأة، وحقوق اﻷقليات الدينية، وحرية العقيدة.

وقد تجددت إشكالية الاتساق في الدفاع عن حقوق الإنسان مع متغيرات المشهد السياسي في أعقاب اﻹطاحة بالرئيس محمد مرسي. أولى هذه الانقسامات كانت في مواجهة الجرائم التي ارتكبتها الدولة في مواجهة أنصار الرئيس محمد مرسي وأعضاء جماعة اﻹخوان المسلمين، وعلى الرغم من نزوح بعض المؤسسات للتغطية على جرائم النظام في ذلك الوقت إما عمدًا لتصفية حسابات مع قوى الإسلام السياسي أو لضعف مهني، إلا أن الجزء اﻷكبر من حركة حقوق الإنسان المصرية حافظ على توازنه في ذلك الوقت؛ فقد كان مناهضًا لانتهاكات حقوق الإنسان تحت حكم الإخوان المسلمين ثم تصدى لجرائم الجيش واﻷمن عقب الإطاحة بمرسي. وهو اﻷمر الذي فاقم من غضب النظام الحاكم الجديد تجاه هذه المنظمات، وحفزه فيما بعد للانتقام منها.

ثاني هذه الانقسامات ظهر في مراحل لاحقة، حين نشبت الخلافات في تقييم المشهد السياسي وترتيب اﻷولويات. ومع التسليم بمشروعية –بل وحتمية– حدوث مثل هذه الانقسامات في سياق المجتمع المدني وحركات حقوق اﻹنسان، إلا أن عدم احتوائها قد يؤدي لمخاطر توظيفها سياسيًا من جانب مؤسسات الدولة اﻷمنية لتقسيم الحركة وإضعافها، بل وإحداث انحراف قيمي في مسارها.

يمثل الحوار المنتظم بين منظمات حقوق الإنسان في إطار هياكل تنسيقية حائط الصد ضد هذه الانقسامات، واﻹطار الذي من خلاله يمكن بناء توافقات على فهم منظومة حقوق الإنسان، وتحليل متغيرات المشهد السياسي وسلوك أطرافه، وهو اﻷمر الذي نجحت فيه المنظمات المصرية على مدار سنوات قبل وبعد ثورة يناير في إطار ما عُرف بملتقى منظمات حقوق الإنسان المستقلة؛ حيث تمخض عن ذلك الملتقى سلسلة طويلة من المواقف والفعاليات المشتركة، التي عظمت من تأثير حركة حقوق الإنسان وجنبتها انقسامات محتملة في مواقف مختلفة.

أدوار الداخل والخارج في السياق المصري

أصبح من الشائع في ظل الحكم السلطوي أن يلجأ كثير من النشطاء التواجد خارج البلاد، إما بشكل قسري نتيجة ملاحقات قضائية أو تهديدات أمنية، أو بشكل اختياري نظرًا لصعوبات العمل في الداخل. وهناك متغيرات كثيرة لابد من استيعابها قبل التسليم بثنائية نشطاء الداخل والخارج، بل إن هناك استراتيجيات متاحة للحيلولة دون الوقوع في هذه الثنائية التي تضر كثيرًا بفرص التغيير والتأثير في سياسات حقوق اﻹنسان على المستوى المحلي. من ناحية أخرى فإن اختيار بعض المنظمات الحقوقية نقل أعمالها خارج البلاد أو تأسيس منظمات جديدة بالخارج لا يعني تصوير اﻷمر ببساطة أنه مجرد وسيلة للفرار من قمع الداخل، كما أن البقاء بالداخل لا يعكس بالضرورة تغليب فكرة المقاومة ودفع ثمنها، بل أحيانًا يندفع البعض مع الضغوط اﻷمنية لتغيير استراتيجية العمل، على نحو قد يربك اتساق خطاب حقوق اﻹنسان، ويعكس تماهي مع السلطة الحاكمة. وهو ما يسبب ضررًا وخيمًا على تماسك ومصداقية الحركة.

 لقد أثبتت تجربة السنوات اﻷخيرة أن وجود امتدادات خارجية لبعض المنظمات الحقوقية كان بمثابة تكتيك وقائي واستراتيجية للمقاومة لاستعادة المجال العام، خاصةً مع استمرار ضم هذه المنظمات لأعضاء وكوادر بارزة  من داخل البلاد. وفي السياق المصري، لم يحدث حتى الآن انقطاع في التواصل أو عزلة بين مكونات حركة حقوق اﻹنسان في الداخل والخارج كما جرت في سياقات سلطوية أخرى. فمعظم المنظمات الحقوقية التي نقلت أعمالها خارج البلاد ضمن إجراءات وقائية للمقاومة والصمود، أو لتسهيل عملها وإدارتها، يستمر تواجدها الميداني والبشري في الداخل بصور مختلفة، كما أن بعض المنظمات والتحالفات الجديدة التي انطلقت من الخارج مؤخرًا، والتي لها أعمال وفعاليات ملموسة، هي نتاج اتفاق وعمل مشترك بين فريق داخل وخارج البلاد. من ناحية أخرى فقد سهلت المنظمات والشبكات الدولية واﻹقليمية منذ عام 2015 عمليات التنسيق بين مختلف الفعاليات المنشغلة بأزمة حقوق اﻹنسان في مصر في الداخل والخارج. ويمكن تفسير عدم حدوث هذ الانقطاع في سياق حركة حقوق اﻹنسان المصرية بسبب تطور وديناميكية هذه الحركة على المستوى المؤسسي والمهني خلال العقود الثلاثة السابقة، فضلًا عن اختيارات وأدوار الفاعلين بها، وأدوار المنظمات الدولية واﻹقليمية.

من ناحية أخرى فكثير من الشباب الذين اضطروا لمغادرة البلاد هم من الجيل الذي أفرزته الحالة الاحتجاجية لثورة يناير، ولايزال لدى هؤلاء الشباب الإصرار والرغبة في مواصلة عملهم ونشاطهم للتغيير السياسي في مصر، ولدي الكثير منهم شبكة واسعة من العلاقات مع أقرانهم داخل مصر، ويحتفظون بتواصل مستمر مع تنظيماتهم المدنية والاجتماعية. لكن توفيق اﻷوضاع القانونية ﻹقامة هؤلاء النشطاء في الخارج يعد أحد التحديات الرئيسية التي يواجهونها، وهو تحدي لم يواجهه –بالقدر نفسه– في العقود السابقة نشطاء المهجر القادمين من دول شرق أوروبا أو أمريكا اللاتينية، الذين احتضنتهم الدول الغربية وقدمت لهم دعمًا كبيرًا لمواصلة عملهم ونشاطهم السياسي والحقوقي. ولعل من واجب حركة حقوق اﻹنسان في هذه المرحلة تطوير اﻷدوات التي من شأنها الحفاظ على التواصل والتنسيق بين النشطاء داخل وخارج مصر، واستمرار توظيف من هم خارج مصر كطاقة للتغيير، للحفاظ على الحركة ذاتها، وحتى لا يحدث الانقطاع الذي شهدته دول أخرى مع استمرار النظام السلطوي.

وفي هذا اﻹطار يمكن استلهام دروس من تجربة نضال حركة حقوق اﻹنسان في تشيلي وقت حكم الجنرال أوجيستو بينوشيه، والتي استمرت خلال الفترة 1973 – 1990. فقد كان لتقاسم وتكامل اﻷدوار بين نشطاء الداخل والخارج دورًا محوريًا في تحريك ملفات حقوق اﻹنسان وقت حكم الجنرال، وأيضًا ساهم في الدفع بعملية التحول الديمقراطي في مرحلة ما. فقد أُجبر عدد كبير من الحقوقيين والنشطاء السياسيين على ترك البلاد؛ إلا أن كثيرًا منهم انخرط في استراتيجيات طويلة المدى لدعم زملائهم في الداخل وفضح جرائم بينوشيه على المستوى العالمي. ولعل السيرة الذاتية للمحامي والناشط الحقوقي التشيلي جوزيه زلاقيت،[15] والذي تولى مناصب مختلفة داخل المنظمات الحقوقية الدولية في السبعينيات والثمانينيات، مثالًا بارزًا للدور الذي يمكن أن يقوم به الحقوقيون في الخارج.

لقد نجح زلاقيت وزملائه في لفت الانتباه العالمي لتدهور حالة حقوق الإنسان في تشيلي؛ من خلال نشاطهم الفعال داخل المؤسسات الحقوقية الدولية، وتأسيسهم لمنابر تضامن دولي مع نشطاء حقوق الإنسان داخل تشيلي، فضلًا عن التفاعل المستمر مع آليات حقوق الإنسان القضائية وشبه القضائية لإثارة ملفات، مثل الاختفاء القسري، والقتل خارج نطاق القانون، والتعذيب، كانت شائعة وقت حكم الجنرال بينوشيه. هذا الحراك لم يكن ممكنًا دون التنسيق والتفاعل بين الحقوقيين في الداخل والخارج[16]

وفي السياق التونسي أيضًا يبرز نموذج اللجنة من أجل احترام حقوق الإنسان والحريات في تونس، وما قامت به خلال اﻷلفينيات في حشد وتعبئة النشطاء التونسيين والمنظمات الدولية والنقابية في أوروبا للضغط على الحكومة التونسية. وتعد التجربة النضالية والسياسية في المهجر للناشط الحقوقي التونسي كمال الجندوبي[17]–وهو من مؤسسي وأول رئيس للجنة من أجل احترام حقوق اﻹنسان والحريات في تونس، كما انتخب كرئيس للشبكة اﻷوروبية المتوسطية لحقوق اﻹنسان، وهي واحدة من أهم الهيئات الحقوقية الدولية– مماثلة للدور الذي قام به زلاقيت، ونموذجًا لما يمكن أن يقوم به نشطاء المهجر في التأثير على سياسات حقوق اﻹنسان داخل بلدانهم أثناء الحكم السلطوي.

اﻷزمة والمسئولية السياسية واﻷخلاقية لنشطاء حقوق اﻹنسان

في بعض التجارب الدولية المقارنة تجاوزت حركات حقوق اﻹنسان العاملة في ظل السياقات السلطوية، أو المجتمعات التي تشهد انقسامات حادة، دورها التقليدي التقني في مقاومة انتهاكات وجرائم حقوق اﻹنسان إلى طرح البدائل، والاضطلاع بما أسماه أحد الكتاب والحقوقيين البارزين “المسئولية السياسية واﻷخلاقية للمجتمع المدني”، تلك الرؤية تعتبر منظمات المجتمع المدني “أحد أطراف قوى اﻹصلاح، كرافعة نحو الحداثة وعصرنة الدولة والمجتمع ككل”[18] وفي هذا اﻹطار تساهم الحركة في تجاوز انقسامات مجتمعية وبناء تفاهمات من شأنها المساهمة في التحول الديمقراطي.

لا يعني ذلك تحميل ما تبقى من حركة حقوق اﻹنسان داخل البلاد المسئولية اﻷمنية والسياسية للقيام بهذه المهمة، بل إن هذه المسئولية السياسية –في كثير من التجارب المقارنة– لعب فيها نشطاء الخارج أدوارًا رئيسية بالتنسيق والتعاون مع نشطاء الداخل دون تحميلهم كلفة أمنية جديدة. وفيما شهدت التجربة التشيلية سلسلة من الحوارات بين الفصائل السياسية والتجمعات الحقوقية في المهجر؛ ما أسهم في تسهيل عملية الحشد والتعبئة ضد نظام بينوشيه، ثم التوحد على منافسته وإسقاطه وبدء مسار التحول الديمقراطي هناك.[19] فإن السياق التونسي، خلال السنوات اﻷخيرة من حكم زين العابدين بن علي، شهد إجراء سلسلة من الحوارات والتفاهمات في المهجر بين القوى السياسية المعارضة، وشملت حركة النهضة ذات التوجه اﻹسلامي و نشطاء حقوق اﻹنسان، ونتج عن الحوارات تأسيس هيئة 18أكتوبر للحقوق والحريات،[20] التي مهدت للثورة التونسية، وقد ساعدت التوافقات على تقريب وجهات النظر بين الفصائل السياسية خلال وضع أولويات وإدارة ملفات المرحلة الانتقالية عام 2011.[21] وتأسست في إطار الهيئة منتديات للحوار للبت في المواضيع الخلافية –خاصةً بين اﻹسلاميين والعلمانيين– ونجحت الهيئة في إصدار سلسلة من اﻹعلانات حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، والعلاقة بين الدين والدولة.

ختام

إن الحفاظ على نمو وبقاء ووظائف حركة حقوق الإنسان ورسالتها القيمية في هذه المرحلة، التي تشهد مستويات غير مسبوقة من القمع والتضييق، تتطلب أساليب غير مألوفة للتكيف بهدف استدامة المقاومة لاستعادة مساحات المجال العام، والتفكير الخلاق في أدوار ومسئوليات حركة حقوق الإنسان للمساهمة في تجاوز اﻷزمة الحالية. كما أن متغيرات هذه المرحلة تقتضي فهم جديد للعلاقة بين مهام وأدوار الحقوقيين في الداخل والخارج دون تبسيطها لثنائية تضاد بين الداخل والخارج أو البقاء والفرار.

النضال من أجل تحسين حقوق اﻹنسان في مجتمع ما هو عملية طويلة وتراكمية لا يمكن الحكم على نتائجها على المدى القصير. وقد يدفع تصاعد القمع، وتمكن النظام السلطوي من بناء شرعية له على المستوى الدولي، إلى أن يقلل البعض من قدر الطموحات التي يمكن للحركة تحقيقها، أو ربما يتخذ البعض الآخر قرارًا بوقف النشاط وتغيير اﻷهداف وأجندة الموضوعات؛ لأنه يرى أن فرص النجاح في إطار المناخ المغلق قليلة وتكلفتها باهظة.

ورغم وجاهة ومشروعية هذه الاختيارات إلا أنها قد تضعف من إمكانات حركة حقوق الإنسان، وقدرتها على الاضطلاع بمسئولياتها التاريخية في مواجهة أزمات حقوق الإنسان، وربما يقود اﻷمر لاحتوائها بالكامل من جانب النظام السلطوي.

والبديل لهذا التوجه هو الإيمان بالطبيعة التراكمية لعمل منظمات حقوق الإنسان، وأهمية استمرار نضالها على المدى البعيد. ولا شك أن تجربة منظمات حقوق الإنسان المصرية، منذ بدايتها خلال عقد الثمانينيات، هي أكبر دليل على جدوى هذه الطبيعة التراكمية. فعلى مدار سنوات من التوثيق والرصد والتعاون مع الآليات الدولية واﻹقليمية لحقوق الإنسان نجحت هذه الحركة في زيادة الوعي المجتمعي بقضايا حقوقية هامة مثل التعذيب ومخاطر استمرار حالة الطوارئ، وحرية العقيدة، وحرية الرأي والتعبير، وأهمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. هذا التراكم، بما سهله من انخراط أجيال جديدة في المجتمع المدني، فتح آفاق الحشد والتعبئة على قضايا حقوقية مهدت لثورة يناير.

وخلال السنوات اﻷخيرة ورغم موجات القمع؛ استطاعت منظمات حقوق الإنسان تحقيق انتصارات صغيرة، لكنها جوهرية، في مجالات التقاضي أو الضغط للإفراج عن سجناء رأي أو تخفيف الضغط على بعض السجناء السياسيين، ومواصلة جهود التوثيق والرصد وتجميع البيانات. وتم بناء تحالفات شبابية للتركيز على موضوعات محددة، مثل الاختفاء القسري أو مواجهة عقوبة الإعدام، أو الدفاع عن حرية الصحافة. كما تسعى بعض الهيئات الحقوقية بشكل أولي لطرح البدائل وبناء التفاهمات الضرورية لمواجهة أزمة حقوق اﻹنسان.

[1] لمزيد من التفاصيل حول هذه الإجراءات أنظر

  • Brechenmacher, Saskia. (2017) Civil Society Under Assault. Washington: Carnegie Endowment for International
  • Hamzawy, Amr (2017) ‘Egypt’s Resilience and Evolving Activism’, Washington DC: Carnegie Endowment for International Peace.

[2] Miller, Elissa. And Sutter, Margaret. (2016) ‘Case No.173: The State of Egypt’s NGOs’. The Atlantic Council. and background on Case No. 173 – the “foreign funding case” Imminent Risk of Prosecution and Closure

[3] Human rights Watch. (2017) ‘Egypt: New Law Will Crush Civil Society’.

[4] Mada Masr. (2014) ‘President Amends Law to Include Life Sentence for Receiving Funds, Arms’.

[5] أنظر بيانات منظمة فرونت لاين دفندرز حول أوضاع المدافعين والمدافعات عن حقوق اﻹنسان في مصر

[6] حول مفهوم الدولة العميقة في إطار ثورات الربيع العربي أنظر

Filiu, Jean-Pierre. (2015) From Deep State to Islamic State: The Arab Counter-Revolution and Its Jihadi Legacy. Oxford University Press.

[7] See Human Rights Watch. (2013) ‘Egypt: Unjust Verdict in Rights Workers’ Trial’.:

[8] See Morayef, Heba. (2013) ‘Uncivil Society: Why Egypt’s New Law Regulating NGOs is Still Criminal’.

أيد حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة اﻹخوان المسلمين الحكم الصادر ضد 43من العاملين في المنظمات الحقوقية اﻷجنبية أنظر موقف الجماعة من هذه القضية وموقفها من إصلاح قانون الجمعيات اﻷهلية في

El Fegiery, Moataz. (2016) Islamic Law and Human Rights: The Muslim Brotherhood in Egypt: Cambridge Scholars Publishing.

[9] See Hamzawy, Amr. (2017) ‘Legislating Authoritarianism: Egypt’s new Era of Repression’. Carnegie Endowment for International Peace.

[10] مقابلة مع محمد زارع مدير مكتب مصر لمركز القاهرة لدراسات حقوق اﻹنسان منشورة على موقع مؤسسة Civicus في سبتمبر 2017

حوار مع جمال عيد مدير ومؤسس الشبكة العربية لمعلومات حقوق اﻹنسان منشور على مدى مصر في مايو 2015

أنظر أيضًا مقال أحمد عطاالله (2017) الحركة الحقوقية في مصر: المناورة في مساحات متآكلة

[11] يمكن متابعة التقارير والبيانات الصادرة في هذه الموضوعات عن المفوضية المصرية للحقوق والحريات، مركز النديم لمناهضة العنف والتعذيب، مركز عدالة للحقوق والحريات، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، الجبهة المصرية لحقوق اﻹنسان،مركز بلادي للحقوق والحريات، اللجنة من أجل العدالة،التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، ومركز القاهرة لدراسات حقوق اﻹنسان.

[12] For example see The Washington Post. (2017) ‘What Trump Should Ask a Brutal Dictator as He Welcomes Him to the White House’.

See also The New York Times. (2018) ‘Despite Egypt’s Dismal Human Rights Record, US Restores Military Aid’.

[13] تأسست الحركة المدنية الديمقراطية في ديسمبر2017 وتضم في عضويتها حزب الدستور، حزب الكرامة، حزب التحالف الشعبي الديمقراطي، الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي مصر الحرية، اﻹصلاح والتنمية، وحزب العيش والحرية، وقد وقع على وثيقتها التأسسية 150شخصية عامة وسياسية من بينهم مدافعين ومدافعات عن حقوق اﻹنسان.

[14] على سبيل المثال تعرض عدد من الحقوقيين ومن بينهم الحقوقي الراحل الدكتور محمد السيد سعيد، أحد مؤسسي المنظمة المصرية لحقوق اﻹنسان، والمحامين هشام مبارك وأمير سالم للاعتقال والتعذيب الشديد عام 1989 نتيجة تضامنهم مع اعتصام عمال مصنع الحديد والصلب.

[15] تولى جوزيه زلاقيت رئاسة اللجنة التنفيذية الدولية لمنظمة العفو الدولية بين عامي 1979 – 1982 وقد عاد لتشيلي عام 1986وعينه أول رئيس منتخب لتشيلي بعد حكم بينوشيه عام 1990كرئيس للمفوضية الوطنية للحقيقة والمصالحة.

[16] See More, Stites Jessica. (2013) Human Rights and Transnational Solidarity in Cold War Latin America. London: The University of Wisconsin Press and Sikkink, Kathryn, and Keck, E. Margaret. (1998) Activists Beyond Borders: Advocacy Network in International Politics. London: Cornell University Press.

[17] ترأس الجندوبي أول هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات العامة عقب اﻹطاحة بنظام بن علي في تونس، كما عين كأول وزير دولة للمجتمع المدني.

[18] أنظر بهي الدين حسن، “تقديم: خريف العرب الكيماوي والمسئولية السياسية للمجتمع المدني” في عسكرة السياسة وتجديد السلطوية: التقرير السنوي الثامن لمركز القاهرة لدراسات حقوق اﻹنسان حول حالة حقوق اﻹنسان في العالم العربي

[19] See Kelly, William. Patrick.(2013) ‘The 1973 Chilean Coup and the Origins of Transnational Human Rights Activism’, 8 (1) Journal of Global History, pp.165-186.

[20] هيئة 18أكتوبر للحقوق والحريات هي إطار تنسيقي استهدف فتح حوار “حول مقتضيات الوفاق الديمقراطي، والاتفاق على الحد اﻷدنى من الحريات”. تأسست في ديسمبر 2005، وضمت أحزاب تونسية معارضة ومؤسسات حقوقية. أعلنت الهيئة عقب سلسلة من الحوارات بين الهيئات التونسية داخل وخارج تونس. لمزيد من المعلومات حول التجربة التونسية يمكن الاطلاع على هذه الورقة التي أصدرتها مبادرة اﻹصلاح العربي

أنظر أيضًا تقرير أصدره مركز دراسة اﻹسلام والديمقراطية حول ذكرى تأسيس الهيئة

[21] See Stepan, Alfred. (2011) ‘Tunisia’s Transition and the Twin Tolerations’. Journal of Democracy 23 (2), pp.89-103.

المصدر
Photo: Hossam el-Hamalawy

Read this post in: English

Exit mobile version