رؤى

رؤى: الجيش والسياسة في مصر وفهم لطبيعة العلاقة وتحليل عناصر القوة

حمل هذا المقال كبي دي إف

يهدف هذا المقال إلى دراسة عوامل تعاظم الدور السياسي للمؤسسة العسكرية المصرية، بما يفرضه من محاولة لفهم طبيعة العلاقة بين الجيش والحكم في مصر، والتي يمكن تلخيصها في رغبة الجيش في تعزيز دوره كوصي على القرار السياسي، والحفاظ على مشاريعه الاقتصادية، وضمان عدم ملاحقة ضباطه قضائيًا. يناقش هذا المقال أهم المحطات التي مرت بها المؤسسة العسكرية في علاقتها بالأنظمة السياسية المتعاقبة في مصر منذ 1952 وحتى الآن، بالإضافة إلى تحليل محددات هذه العلاقة المتشابكة بين الجيش والسياسة، وفهم أبرز عوامل قوتها الداخلية والخارجية. بدأ تصاعد نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية في مصر منذ لحظة استيلاء الضباط الأحرار على الحكم عام 1952 بقيادة الضابط والرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وقيامهم بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وحل الأحزاب السياسية، وما تبعه من توسع في تعيين العسكريين على رأس أغلب الوزارات والهيئات الحكومية بما فيها الهيئات الثقافية والصحفية والتلفزيونية، مع إعطاء القطاع العام دورًا أكبر في قيادة عملية التنمية. الأمر الذي أدى إلى خلق تعديل جذري في هيكل السلطة عبر استبدال نخب العهد السابق بنخبة حاكمة جديدة من العسكريين.[1]

مع تولي السادات رئاسة البلاد عام 1970 وبعد صراعه مع مراكز القوى، شرع في تخفيف سيطرة الجيش على مفاصل الدولة، ساعده في ذلك سعيه للانسلاخ عن تجربة سلفه الاشتراكية، ورغبته في الانفتاح على الغرب، سواء على المستوى السياسي والعسكري بقبوله للمساعدات العسكرية الأمريكية والتي صاحبت عملية السلام مع إسرائيل، أو على المستوي الاقتصادي من خلال سياسات تحرير الاقتصاد وإعطاء دور أوسع للقطاع الخاص، ما أدي لصعود نخبة جديدة من رجال الأعمال المقربين من السادات مثل رجل الأعمال عثمان أحمد عثمان، وبدأت هذه النخبة في مزاحمة النخب العسكرية على النفوذ السياسي والاقتصادي،[2] خاصةً بعد أن قلصت الدولة تدخل النخبة العسكرية في الشئون المدنية التي تشمل مهام مثل الإسكان، واستصلاح الأراضي.

استمر تراجع دور الجيش في الحياة السياسية في عهد الرئيس السابق مبارك، وهو ما يمكن رؤيته في إطار الصراع المُركب بين النظام السياسي، والمؤسسة العسكرية، والأجهزة الأمنية، والذي تهدف فيه كل مؤسسة لإخضاع المؤسسات الأخرى.[3] تظهر بعض ملامح هذا الصراع في تقليص الدولة للإنفاق العام على المؤسسة العسكرية، وقيام مبارك بإقالة وزير الدفاع القوي ذي الشعبية الطاغية داخل الجيش المشير محمد أبو غزالة عام 1989، والذي أسس لاعتماد الجيش على احتياجاته ذاتيًا، من خلال أجهزة المشروعات الكبرى ومشروعات الخدمة الوطنية، فضلًا عن إنشاء مساكن ومستشفيات مجهزة للضباط.[4] وبالرغم من سعي الدولة وحكومات رجال الأعمال منذ التسعينات لخصخصة هيئات القطاع العام الاقتصادية إلا أنها لم تطرح بأي حال مشروعات الجيش الاقتصادية، والتي ظلت إدارتها خاضعة لقيادات عسكرية متقاعدة، وتحظى بامتيازات قانونية ومحاسبية فائقة على عكس القطاعين العام والخاص.[5]

تسببت ثورة يناير عام 2011 في عودة الجيش لصدارة المشهد السياسي باعتباره حاكمًا مؤقتًا للبلاد بعد تنحي مبارك، إلا أن نفوذه ظل محصورًا بفعل الانتفاضة الشعبية وتطلعاتها للانتقال الديمقراطي والدولة المدنية. ورغم سعي المجلس العسكري آنذاك لإضفاء بنود فوق دستورية، تضمن وضعية متميزة للجيش في المشهد السياسي، إلا أن تلك البنود رُفضت من جانب الشارع والقوى السياسية الرئيسية، خاصةً جماعة الإخوان المسلمين، والتي كانت تتطلع لدور سياسي أوسع، حيث اعتبرت هذه البنود تأسيسًا لوصاية عسكرية على السلطة المدنية المنتخبة.

مع تولي الرئيس الأسبق وعضو جماعة الإخوان محمد مرسي رئاسة البلاد في يونيو 2012، وبعد عزله لوزير الدفاع ورئيس الأركان، وتعيينه مدير المخابرات الحربية –وعضو المجلس العسكري وقتها– وزيرًا للدفاع، بدا وكأن المجلس العسكري اختار الانسحاب من المشهد والعودة للظل مرة أخرى. وبالرغم من دعاية جماعة الإخوان بتمكن مرسي من تقليم أظافر الجيش، وحسم الصراع لصالح السلطة المدنية، إلا أن تلك الدعاية سرعان ما تبين زيفها مع إعادة الجيش تسويق نفسه كطرف سياسي بمنأى عن الاستقطاب، وهو ما ظهر جليًا في دعواته القوى السياسية للحوار المجتمعي؛ لرأب الصدع السياسي،[6] فضلًا عن ظهور وزير الدفاع المتكرر، وإبراز خطبه وكلماته للجمهور.[7] وهو الأمر الذي جعل عددًا كبيرًا من القوى السياسية لا يرون غضاضة في عودة الجيش للمشهد السياسي؛ لصالح تحقيق المطالب الجماهيرية بانتخابات مبكرة.[8]

شكلت إطاحة الجيش بمرسي في الثالث من يوليو 2013 نقطة فارقة في التاريخ المصري، عاد من خلالها الجيش لصدارة السلطة مرة أخري، لكن هذه المرة بتأييد قطاعات جماهيرية واسعة. ومع المظاهرات المطالبة بتفويض الجيش لمحاربة الإرهاب في 26 يوليو 2013، بدأ الجيش، بالتعاون مع وزارة الداخلية، حربًا ضد جماعة الإخوان وأنصارها. وفي الوقت نفسه، فتح جسور التفاهمات مع قوى سياسية وحزبية أخرى، فأوكلت مهمة تشكيل الحكومة لعضو الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي حازم الببلاوي.

وفي أعقاب تولي وزير الدفاع الأسبق عبد الفتاح السيسي رئاسة البلاد عام 2014، بدأ الجيش في بسط سيطرته على مفاصل الدولة عبر تعيين قيادات عسكرية في مناصب حكومية متعددة، وإعطاء مساحة أوسع لاقتصاد الجيش في التمدد والنمو،[9] والعمل على ضمان هذا الوضع في المستقبل، وهو ما يتجلى بوضوح في التعديلات الدستورية التي جرت في أبريل 2019، والتي أقرت وصاية الجيش على الدولة المدنية، والتأكيد على وضع المؤسسة العسكرية المتميز عن باقي الوزارات خاصةً في تعيين وزيرها، فضلًا عن صلاحيتها في محاكمة المدنيين عسكريًا.

محددات علاقة المؤسسة العسكرية مع الدولة المدنية

يمكن فهم طبيعة علاقة الجيش في مصر بنظام الحكم في الوقت الحالي في إطار عدد من المحاور، أبرزها التعزيز المستمر لإمبراطوريته الاقتصادية، وضمان نفوذه على القرار السياسي للدولة، وضمان إفلات القيادات والأفراد المنتمين للجيش والمتورطين في أي انتهاكات ماضية من العقاب.

الحفاظ على الإمبراطورية الاقتصادية

خلال إحدى الندوات حول مطالبات برلمان ما بعد الثورة في 2012 بضرورة إخضاع النشاط الاقتصادي للجيش لرقابة البرلمان باعتباره جزءً من المال العام، قال اللواء محمود نصر مساعد وزير الدفاع للشئون المالية وعضو المجلس العسكري الأسبق:

“هذه ليست أموال الدولة وإنما عرق وزارة الدفاع من عائد مشروعاتها… سنقاتل على مشروعاتنا وهذه معركة لن نتركها… العرق الذي ظللنا ٣٠ سنة … لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح للغير أيًا كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة… هذا جهد مخلص أمين وندفع ضرائب عنه ومن يتعرض لهذا الموضوع يتعرض للأمن القومي المصري”.[10]

بالرغم من فجاجة ما قاله اللواء، إلا أنه يكشف عن نظرة المؤسسة العسكرية لمشروعاتها الاقتصادية، والتي تترجم خلالها صلاحياتها وإمكانياتها التنظيمية المهولة إلى فوائد اقتصادية محضة.[11] يتجلى هذا في استخدام مساحات شاسعة من الأراضي الصحراوية –التي يسيطر عليها الجيش لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي– تجاريًا للتكسب؛ وذلك من خلال صلاحياته المخولة له في بيع وإدارة هذه الأراضي، والحصول في المقابل على عوائد مالية.

يعود تاريخ هذه الإمبراطورية الاقتصادية إلى حاجة الجيش المستمرة لتوفير المدد اللازم لأفراده، خاصةً مع سعي الدولة لتقليص الإنفاق العسكري منذ اتفاقية السلام مع إسرائيل، والأزمة المالية للدولة في منتصف الثمانينيات. وهو ما جعل البحث عن مزيد من الدخل والرغبة في تعزيز الموارد الذاتية للجيش أمرًا ملحًا.

العام حجم المخصص لقطاع الدفاع والأمن القومي (بالمليار جنيه)
2005/2006 15.62
2006/2007 17.32
2007/2008 19.19
2008/2009 21.76
2009/2010 22.83
2010/2011 25.39
2011/2012 25.47
2012/2013 27.52
2013/2014 30.94
2014/2015 39.27
2015/2016 43.27
2016/2017 47.13
2017/2018 51.86
2018/2019 59.36

(نظرة على تطور مصروفات قطاع الدفاع والأمن القومي بالموازنة العامة بالدولة خلال الفترة من 2005 إلى 2019)[12]

يمكن القول أن دخول الجيش إلى عالم السوق في البداية كان عبر إنشاء “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية”، والصادر بقرار جمهوري رقم 32 لسنة 1979، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي لاحتياجات القوات المسلحة والعمل على إمداد السوق المحلي.[13] يمتلك جهاز المشروعات إحدى وعشرين شركة على الأقل، تعمل في قطاعات مدنية مختلفة، بدايةً من المقاولات واستصلاح الأراضي، والإنتاج الغذائي والحيواني، والإسمنت والأسمدة، وإدارة الفنادق وخدمات الأمن، فضلًا عن سلسلة محطات بنزين “وطنية” المنتشرة فروعها في كافة ربوع الجمهورية.

ورغم الجدل بين مزاحمة الجيش للقطاع الخاص وسعيه للهيمنة على السوق، وبين كون نصيب شركات الجيش في تلك القطاعات غير كبير بالشكل المتصور، إلا أنه في حكم المؤكد أن الجيش يمتلك بالفعل اقتصادًا مدنيًا موازيًا، يستطيع من خلاله ليس فقط تحقيق الرخاء، بل أنه يضمن أيضًا استقلاليته في القرار عن السلطة المدنية المنتخبة.[14]

الوصاية العسكرية على القرار السياسي

بعد صعوده للمشهد السياسي بعد ثورة يناير، يسعي الجيش في كل فرصة للتأكيد على رغبته في إيجاد وضعية متميزة له في الحياة السياسية، بشكل يضمن له الوصاية والنفوذ على القرار السياسي، أو في أسوأ الأحوال الاستقلالية عن السلطة المدنية، أيًا كانت، وضمان عدم تدخلها في شئونه العسكرية أو المالية.

يتجلى هذا المفهوم في متن التعديلات الأخيرة التي أدخلها مجلس النواب على الدستور المصري، وتم الاستفتاء عليها في أبريل 2019، خاصةً في المادة (200) والمتعلقة بوظيفة القوات المسلحة في نظام الحكم، عبر إضافة بعض المهام الإضافية لها تحت مسمي: “صون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها”، الأمر الذي يشرعن دور المؤسسة العسكرية كفاعل أساسي في منظومة الحكم، وعدم قصر دورها على مهام ضمان سلامة وأمن البلاد، كما يرسخ لدور وصائي لها في المستقبل، بما يسمح لها بداية من التدخل في الحياة السياسية و حتى الانقلاب على الأنظمة المنتخبة، تحت مبررات مثل: الحفاظ على الدستور والديمقراطية ومدنية الدولة، فيما يبدو أنه محاولة لاستنساخ تجارب دول عانت من الوصاية العسكرية على الحياة السياسية، وأقرب نموذج لهذا هو وضع الجيش في الحياة السياسية التركية حتى الماضي القريب.

يعزز هذا الاتجاه الوصائي، ما يكشف عنه طبيعة تشكيل مجلس الدفاع الوطني، وهو أعلي هيئة مكلفة بتأمين البلاد، فوفقًا للقانون 21 لسنة 2014 الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور، ما يزال الجنرالات يسيطرون على أغلبية تشكيل هذا المجلس.[15] فبعيدًا عن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب ووزراء الخارجية والمالية والداخلية ورئيس المخابرات –باعتبارهم مدنيين نظريًا– فإن بقية الأربعة عشر عضوًا على الأقل في مجلس الدفاع الوطني من القيادات العسكرية،[16] أي أن القرار الذي سيكون في مواجهة أي حراك شعبي في المستقبل سيكون من زاوية تهديدات الأمن القومي.[17]

وبالنظر إلى هيكل السلطة في مصر نجد القيادات العسكرية السابقة على رأس مناصب حكومية عدة، فبالإضافة لاحتكار الضباط السابقون حقائب مثل وزارة الطيران المدني، والتنمية المحلية، وأحيانًا وزارة النقل، وبالطبع وزارتي الدفاع والإنتاج الحربي، فإن عددًا كبيرًا من وكلاء الوزراء والمدراء العاملين بالوزارات هم من القيادات السابقة. يزداد الأمر فجاجة عند النظر لخلفيات المحافظين (المسئولين الإداريين عن المحافظات)، حيث يتضح أن 19 محافظًا من أصل 27 محافظًا هم من جنرالات الجيش والشرطة المتقاعدين،[18] فضلًا عن نوابهم ومساعديهم.

زاوية أخرى تُظهر الوضعية الاستقلالية التي تسعي لها المؤسسة العسكرية في المستقبل، والتي تمت من خلال تعديل المادة 234 من الدستور والمتعلقة بطريقة تعيين وزير الدفاع، حيث أدى التعديل إلى أن تكون عملية تعيينه –بشكل دائم– بقرار وموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعد أن كانت هذه المادة في دستور 2014 تنص على أن هذه الطريقة في التعيين تسري لمدة فترتين رئاسيتين فقط. الأمر الذي يضمن مكانة متميزة لموقع وزير الدفاع ومن ثم للمؤسسة العسكرية في أي نظام سياسي قادم، بغض النظر عن طبيعة الحكومة الموجودة.

حصانة المسئولين وضمان عدم مساءلتهم مدنيًا

أحد محددات علاقة الجيش بأي سلطة منتخبة في المستقبل هو ضمان الخروج الآمن للضباط والقيادات العسكرية المتورطة في قضايا فساد أو انتهاكات حقوقية، وعدم ملاحقتهم أو محاكمتهم أمام قضاة مدنيين، وإبقاء هذه القضايا شأنًا عسكريًا خالصًا.

في 10 مايو 2011 أصدر المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري –باعتباره رئيسًا للبلاد– قرارًا نُشر في الجريدة الرسمية، أعفى فيه ضباط القوات المسلحة من المثول أمام المحاكم المدنية في قضايا الكسب غير المشروع، ويجعل فيه القضاء العسكري هو جهة الاختصاص الوحيدة بالفصل في هذه الجرائم، حتى ولو لم يبدأ التحقيق فيها إلا بعد تقاعدهم.[19] الأمر الذي يكشف بالطبع عن نية المؤسسة العسكرية في الحفاظ على قياداتها وضباطها من المساءلة المدنية عن أي جرائم فساد تم ارتكابها سابقًا.

بعد تولي الرئيس الأسبق مرسي، وإحالته وزير الدفاع طنطاوي ورئيس الأركان عنان للتقاعد في أغسطس 2012، قام بتكريمهم وإعطائهم قلادة النيل وتعيينهم كمستشارين له، في رسالة ضمنية للمؤسسة العسكرية بعدم الملاحقة القانونية لأى من قادته المتورطين في أية انتهاكات حقوقية وقعت أثناء المرحلة الانتقالية.[20]

وبالرغم من قيام المؤسسة العسكرية بالإطاحة بمرسي وعودتها إلى سدة الحكم من خلال وزير الدفاع السابق عبد الفتاح السيسي، وعمله الدؤوب للتحكم في جميع السلطات بما فيها التنفيذية والتشريعية والقضائية، إلا أن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة للجيش، ففي السادس عشر من يوليو عام 2018 أصدر مجلس النواب قانون “معاملة كبار ضباط القوات المسلحة”، والذي يهدف ليس فقط لمنع كبار قادة الجيش من الترشح للرئاسة عبر استدعائهم مدى الحياة للخدمة العسكرية، لكنه يمنع أيضًا تحريك أية تحقيقات قضائية في مواجهة ضباط الجيش عن أي فعل ارتكبوه أثناء فترة تعطيل الدستور وحتى انعقاد أول جلسة في مجلس النواب، إلا بإذن من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فضلًا عن تأمين حصانة دبلوماسية لكبار الضباط عند سفرهم إلى الخارج، وهو ما يكشف الإرادة الملحة لدى المؤسسة العسكرية في عدم ملاحقة قياداتها في المستقبل محليًا أو دوليًا.[21]

تحليل مصادر قوة المؤسسة العسكرية

بالرغم من اندلاع ثورة شعبية في يناير، وما تلاها من شعارات رافضة للحكم العسكري، وبعد عام واحد فقط من تولي رئيس مدنى للسلطة، استطاع الجيش العودة وبقوة لصدارة المشهد السياسي والإطاحة به، وفرض سيطرته على كامل المشهد السياسي، وعمل على التأسيس لدولة يكون فيها الجيش لاعب سياسي مستقل ونافذ في ظل غياب وتهميش للمدنيين، ما يجعل من الضروري محاولة فهم عناصر قوة المؤسسة العسكرية الحالية في الحياة السياسية المصرية.[22]

عوامل غير عسكرية: ضعف مدني ومخاوف دولية

بالنظر للحظة إطاحة الجيش بالرئيس مرسي في يوليو 2013 نجد أن الجيش قام بهذه الخطوة في ظل استقطاب سياسي واسع، وتفاقم للأوضاع الأمنية والاقتصادية، والمطالبات الشعبية بنزوله، وضوء أخضر –إقليمي على الأقل– من دول خليجية رئيسية بالموافقة على عزل مرسي.

أحد أهم عوامل قوة الجيش الحالية هو استمرار حالة التأييد الجماهيري له، فرغم تأكيدات المراقبين بتآكل شعبية الرئيس السيسي على إثر قرارات التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية، والسياسات الاقتصادية القاسية –مثل تحرير سعر الجنيه– التي أدت لارتفاع شديد في أسعار السلع والخدمات، فلاتزال هناك قناعات شعبية واسعة تفضل وجود الجيش في سدة الحكم بدلًا من أن يؤدي أي تحرك أو احتجاج للانزلاق لمصير دول أخرى في الجوار مثل ليبيا واليمن وسوريا، وهو الخطاب الذي يعمل النظام على تغذيته وتقويته بشكل متكرر عبر وسائط إعلامية مختلفة، وذلك بعد أن استحوذ جهاز المخابرات العامة على عدد كبير من القنوات والجرائد الخاصة، والتي تمرر/تمنع السلطة من خلالها الرسائل المُخاطب بها الجمهور، ومن بينها الموضوعات المتعلقة بالجيش.[23]

عامل آخر مهم هو الانقسام السياسي المستمر بين التيارات السياسية المختلفة –خاصةً العلمانية والإسلاموية–[24] والذي تفاقم في مرحلة ما بعد ثورة يناير وصولًا للثلاثين من يونيو، وأدت هذه الحالة من الفوضى والعراك والتراشق السياسي، بالإضافة إلى رفض الوصول لصيغة توافق في ظل أزمات أمنية واقتصادية كبيرة، إلي تشوه صورة السياسيين أمام الرأي العام باعتبارهم غير راغبين في التغاضي عن خلافاتهم الشخصية، في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه المؤسسة العسكرية ككيان وطني متماسك يعمل لصالح الشعب.

عامل آخر يعتمد عليه الجيش بشكل كبير في تعضيد مصادر قوته، وهو الشرعية التاريخية المستمدة من الدفاع عن أمن البلاد ضد التهديدات الإسرائيلية، وضد تهديدات الجماعات المسلحة داخل وخارج مصر حاليًا، ساهم في ذلك حالة الفوضى الإقليمية ونشوء العديد من الجماعات العابرة للدول، وامتداد آثارها لمصر سواء عبر تنظيم داعش أو عبر مجموعات تكفيرية أخرى في ليبيا. وذلك بعيدًا عن الاستراتيجية المتبعة في مجابهته لها، والتي تعتمد أغلبها على الحلول الأمنية أكثر من الحلول السياسية والاقتصادية، والتي تساهم في زيادة العنف بدلًا من محاصرته وإيقافه.

مصدر آخر لقوة المؤسسة العسكرية هو الدعم الإقليمي والدولي له، والذي يمكن ترجمته في استمرار تدفق المساعدات العسكرية والمالية من الولايات المتحدة ودول الخليج، وازدهار العلاقات الدبلوماسية واستمرار صفقات الأسلحة مع دول ذات ثقل في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا، هذا بالإضافة لزيادة عدد المناورات العسكرية المشتركة، وكون مصر إحدى دول التحالف العربي في حرب اليمن، يمكن فهم هذا الدعم المتزايد للجيش المصري في ضوء تصدير الجيش نفسه باعتباره حاميًا لدول الخليج من التهديدات الإيرانية، وتأمين المنطقة من خطر الإسلام السياسي، ومانعًا عن أوروبا خطر الإرهاب وتزايد عدد اللاجئين، ومحافظًا على أمن إسرائيل، يضاف لهذا أيضًا رغبة الحلفاء الغربيين في تجنب التقارب المصري مع روسيا.

عوامل داخل الجيش: تماسك واستقلالية

يمكن القول بأن أبرز عوامل قوة واستقلالية الجيش تكمن في عقيدته القومية، وتماسكه رغم الهزات السياسية المستمرة، وإمبراطوريته الاقتصادية الكبيرة.

من عناصر قوة الجيش هو أن عقيدته ما تزال قومية، غير طائفية أو دينية، وذلك بالرغم من دخول عوامل عدة قامت بالتشويش على هذه العقيدة، على رأسها التعاون والتنسيق الأمني مع إسرائيل حول الأوضاع في سيناء، والتنازل عن أراض مصرية في مناطق استراتيجية لدولة أخرى، والذي أثر على مفهوم الجيش القومي، برؤيته المتشددة تجاه أمور السيادة، وعقيدته التاريخية تجاه إسرائيل باعتبارها كيان عدو يهدد الأمن القومي.

كذا يعد تماسك الجيش –رغم عدده الكبير نتيجة لسياسات التجنيد الإجباري– هو أحد عناصر قوته الداخلية، وذلك بالرغم من المنعطفات والتقلبات السياسية المختلفة، بدايةً من ثورة يناير مرورًا بالإطاحة بمرسي، وحتى التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وترشح رئيس الأركان السابق سامي عنان –القابع بالسجن الآن– للرئاسة، كل هذه المحطات لم تؤثر في ثبات وتماسك الجيش الداخلي، والذي لم يشهد أي انشقاقات حقيقية، على خلاف جيوش عربية أخرى مثل سوريا وليبيا.

تمثل إمبراطورية الجيش الاقتصادية مصدرًا آخر للقوة؛ فمشاريعه الاقتصادية وتوسعه المستمر في قطاعات مدنية، يضمن له ولاء ضباط وقيادات الجيش، من خلال الإغداق عليهم. هذا فضلًا عن ضمان استقلالية شئونه عن أي سلطة مدنية منتخبة.

خاتمة

رغم ما تعرضت له المؤسسة العسكرية من تقلبات في تاريخ علاقتها بالأنظمة السياسية المتعاقبة، إلا أنها ظلت دومًا رقمًا صعبًا في معادلة الحكم المصرية، فرضه طبيعة الموقع الجغرافي للبلاد، والتهديدات المحيطة، والتوازنات الإقليمية، وهشاشة الأنظمة والتيارات السياسية. ويمكن تفسير العلاقة بين الجيش والسياسة حاليًا في إطار رغبته في استمرار وتعضيد إمبراطوريته الاقتصادية، وتعزيز دوره الوصائي على القرار السياسي، بغض النظر عن أي سلطة منتخبة قادمة، بالإضافة إلى ضمان عدم ملاحقة قياداته أو ضباطه قضائيًا بتهمة ارتكابهم انتهاكات لحقوق الإنسان. سيكون علي عاتق أية سلطة مدنية منتخبة قادمة، أو مجموعة تغييرية، راغبة في انتقال ديمقراطي حقيقي وبسط السيطرة المدنية الكاملة على كامل مؤسسات الدولة، مهمة الإدارة الحصيفة للعلاقات المدنية – العسكرية، وما يتطلبه من فهم عميق لحدود وأبعاد علاقة الجيش بالسياسة، وتحليل عناصر قوته، فضلًا عن دراسة تجارب وخبرات دول نجحت في تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية وحصار تأثيرها على الشأن السياسي مثل تركيا،[25] وإندونيسيا، وتشيلي. وتنبع حذاقة اللاعب السياسي من قدرته على النظر بشمولية للخريطة السياسية داخل وخارج مصر، وما تحويه من فرص وتحديات، والتعرف علي قدرات اللاعبين السياسيين وحساب مدى تأثيرهم، والقدرة على تعزيز جميع الجهود لتحقيق الهدف المنشود وهو التحول الديمقراطي لدولة مدنية، يكون الجيش فيها مؤسسة تنفيذية تابعة لسيطرة المدنيين، وتضطلع بدورها الوظيفي الأصيل في الدفاع عن أمن وسلامة حدود البلاد.

 

1] عبد الملك، أنور (1962). المجتمع المصري والجيش 1952-1967. القاهرة: كتاب المحروسة.

[2] أبو المجد، زينب (2011). الجيش والاقتصاد في بر مصر. جدلية. 21 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://bit.ly/2Q6usZa

[3] Qandil, Hazem (2012). Soldiers, Spies, and Statesmen: Egypt’s Road to Revolt. USA/UK: Verso

[4] وزارة الدفاع (2017). فيلم المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة. YouTube.22 يناير. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، https://www.youtube.com/watch?v=I7vJK37Tjo

[5] الصايغ، يزيد (2012). فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر. مركز كارنيجي للشرق الأوسط.1 أغسطس. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://bit.ly/2Q6vnc4

[6]الطنطاوي، محمد (2012). تأجيل حوار القوات المسلحة مع القوى السياسية. اليوم السابع.12 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://www.youm7.com/874191

[7]الجهمي، حاتم (2013). السيسي: الجيش نار لا تلعبوا به ولا معه.. وإعادته للحياة السياسية خطر. جريدة الشروق. 11 مايو. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://tiny.cc/jkoadz

[8]العربية نت (2013). جبهة الإنقاذ: بيان الجيش جاء تفاعلًا مع نبض الشارع. 2 يوليو، تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://bit.ly/2vZQcfU

[9] مارشال، شانا (2015). القوات المسلحة المصرية وتجديد الإمبراطورية الاقتصادية. مركز كارنيجي للشرق الأوسط. 15 أبريل. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، https://carnegie-mec.org/2015/04/15/ar-pub-59727

[10]جمال، وائل (2012). العسكري: مشروعاتنا (عرق) وزارة الدفاع.. ولن نسمح للدولة بالتدخل فيها. جريدة الشروق. 27 مارس. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://tiny.cc/zvoadz

[11] برايز، عبد الفتاح (2016). ممنوع الاقتراب أو التصوير: الجيش والاقتصاد في مصر. موقع جدلية. 25 يناير. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://bit.ly/2Q5DHIW

[12] وزارة المالية (2005- 2019).الموازنة العامة للدولة، تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://tiny.cc/ryoadz

[13] جهاز مشروعات الخدمة الوطنية. الموقع الرسمي. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://www.nspo.com.eg/ar/index.html

[14] ممنوع الاقتراب والتصوير. مرجع سابق.

[15] رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة (2012). قرار رقم 348 لسنة 2012 بشأن تشكيل مجلس الدفاع الوطني. منشورات قانونية. 14 يونيو. تاريخ الاطلاع 18سبتمبر 2019، https://manshurat.org/node/4939

[16] جلال، رجب (2014). قراران جمهوريان بتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني. المصري اليوم.27 فبراير. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، http://bit.ly/2Q2Jejw

[17] رفع القانون الصادر من عدلي منصور تمثيل العسكريين في مجلس الدفاع الوطني، ليزيد علي تشكيل المجلس في 2012  كل من: مساعد وزير الدفاع المختص، رئيس هيئة القضاء العسكري وأمين عام وزارة الدفاع

[18]إيهاب، فادية (2018). مهن المحافظين الجدد.. لواءات وأطباء وأساتذة جامعات. جريدة الوطن. 30 أغسطس. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، https://www.elwatannews.com/news/details/3625243

[19]نافعة، حسن (2012). من يحاكم من؟. المصري اليوم. 10 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، https://www.almasryalyoum.com/news/details/190434

[20] عبد المجيد، عبير (2012). ننشر نص قرار “مرسى” بشأن التغيرات الأخيرة.. تعيين محمود مكي نائبًا لرئيس الجمهورية.. والسيسي وزيرًا للدفاع.. وإحالة طنطاوي وعنان للتقاعد.. وإلغاء الإعلان الدستوري المكمل. اليوم السابع. 12 أغسطس. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019،  http://www.youm7.com/755859

[21]فخري، نورا (2018). ننشر تقرير لجان البرلمان حول قانون معاملة كبار قادة القوات المسلحة. اليوم السابع. 3 يوليو. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019،  http://www.youm7.com/3857953

[22] عبد ربه، أحمد ومدحت، شريف والحداد، نهلة (2012). العلاقات المدنية – العسكرية في مصر: التحرك للأمام. بيت الحكمة للدراسات الاستراتيجية. 1 يوليو. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019 http://bit.ly/2Q0Ni3y

[23] بهجت، حسام (2017). تفاصيل استحواذ المخابرات العامة على «إعلام المصريين»، مدي مصر. 20 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 18 سبتمبر 2019، https://bit.ly/2zVAbKK

[24] يُفرق الباحث إسماعيل الإسكندراني بين مصطلح (الإسلامي والإسلاموي) فالإسلامي نسبة إلى ما هو عقائدي وتعبدي (إيمان وشعائر) وإلى القطعيات المعلومات من الدين بالضرورة، أما “الإسلاموي” فهو تعبير عما هو فكري وأيديولوجي. أي أنه “فهم الأشخاص والجماعات” لمنهج الإسلام في الحياة.
الإسكندراني، إسماعيل (2012). الثورة المصرية كحركة ما بعد إسلاموية: دراسة مفاهيمية تفسيرية للحالة العربية الراهنة. مصر: مكتبة الإسكندرية.

[25]  عبد الجليل، طارق (2012). العسكر والدستور في تركيا: من القبضة الحديدية إلى دستور بلا عسكر. مصر: دار نهضة مصر.

 

Read this post in: English

اظهر المزيد

أحمد النديم

باحث وحقوقي من مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى