هل الانتفاضة السودانية ثورة؟

حمل هذا المقال كبي دي إف

خلاصة

في التاسع عشر من ديسمبر 2018، بدأ الناس في التظاهر في عدة مدن بالسودان، ضد الظروف المعيشية المتردية وارتفاع الأسعار. وبعد أربعة أشهر، وتحديدًا في الحادي عشر من أبريل 2019، تم الإطاحة بالرئيس السوداني عُمر البشير في انقلاب عسكري. ومنذئذ يمر السودان بعملية انتقال سياسي تتشارك فيها القوات المسلحة والمجتمع المدني السلطة، مع العمل نحو التحول إلى الديمقراطية. تناولت منافذ إعلامية عدة الربيع السوداني أو موجة الربيع العربي في السودان.[1] في هذا المقال، سوف نجيب على السؤال التالي: هل الانتقال السياسي في السودان هو حقًا ربيع أو بالأحرى ثورة؟ سوف نستخدم أولًا السردية المرتبة زمنيًا كما وضع نهجها كرين برينتون في “تشريح الثورة” ونفحص ما إذا كان الربيع العربي يتبع نسقًا مماثلًا؛ وإذا ما ثبت ذلك، فسوف نحلل بعدئذ إمكانية وصف ما يحدث بأنه “ثورة عربية”. بعد ذلك، ننتقل إلى تحليل مقارن للتحول السياسي القائم في السودان، مقارنةً بالأحداث السياسية التي استجدت في دول أخرى كانت ضمن نطاق الثورة العربية، وسوف نجد نسقًا مشابهًا للغاية لذلك الذي تعرضت له تلك الدول.

المقدمة: الربيع العربي

تم استخدام مصطلح “الربيع العربي” للمرة الأولى عام 2005. في يناير من ذلك العام، انعقدت أول انتخابات ديمقراطية في العراق. تم اعتبار الانتخابات نصرًا لأجندة الديمقراطية التي دفع بها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش. في الرابع عشر من فبراير، اغتيل رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني الذي تقلد ذلك المنصب لفترة طويلة، في حادث سيارة مفخخة في بيروت. ومع اقتناع الكثيرين بأن الدولة السورية كانت وراء الاغتيال، اندلعت مظاهرات حاشدة في شوارع بيروت، راحت تطالب بالديمقراطية الحقيقية وبخروج القوات السورية من لبنان، دشّن هذا مولد حركة 14 آذار، التي قادها نجل الحريري، سعد الحريري. وفي عام 2005 أيضًا، شهدت مصر أول انتخابات رئاسية “مفتوحة”، اضطر فيها الرئيس حسني مبارك إلى الترشح وأمامه مرشح آخر هو أيمن نور.[2] هذه هي أسباب بدء المعلقين في الحديث عن “ربيع عربي”، مع نسب الفضل إلى الرئيس بوش فيما يتعلق بموجة الديمقراطية الجديدة في العالم العربي.[3]

على الرغم من بوادر التفاؤل في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين؛ حيث آمن قلة من الناس بإمكانية إجراء تغيير حقيقي في العالم العربي، كان المعلقون غير متفائلين عندما خرج التونسيون إلى الشوارع في ديسمبر 2010 ويناير 2011. قال كاتب الرأي كولم لينش، في دورية “فورين بوليسي”، في مقال بتاريخ السادس من يناير 2011، إن ما يحدث من مظاهرات تونسية هو بوادر “ربيع أوباما العربي”. كان هذا قبل فرار الديكتاتور التونسي من البلاد بثمانية أيام، وقبل اندلاع مظاهرات التحرير في مصر بتسعة عشر يومًا. عندما ظهرت الجموع الحاشدة في ميدان التحرير في الخامس والعشرين من يناير 2011، نقلت مجلة “دير شبيجل” الألمانية عن محمد البرادعي المصري الحاصل على جائزة نوبل قوله “قد نصل إلى ربيع عربي”.[4]

الربيع العربي أم الثورة العربية؟

تم صك مصطلح “الربيع العربي” قبل الزلزال السياسي الحقيقي الذي حدث في العالم العربي. فكلمة “الربيع” تشير بوضوح إلى “ربيع براغ” في عام 1968، وهي فترة وجيزة من التحرر والديمقراطية في تشيكوسلوفاكيا السابقة تحت قيادة ألكساندر دوبتشيك، وقد سحقتها الدبابات الروسية. في هذا السياق، فمن الصعب إنكار الدلالات الساخرة، والمتشائمة، في كلمة “الربيع”. فهناك قلة قليلة آمنت بأن المظاهرات التونسية والمظاهرات المصرية ستؤدي –فيما بعد– إلى مزيد من التحرر والديمقراطية في العالم العربي.

التساؤل الذي يطرح نفسه حاليًا، بعد تسع سنوات، هو هل يجب علينا استخدام مصطلح “الربيع العربي”، أم نطلق عليها “الثورة العربية”؟

مشكلة كلمة الثورة هي تعدد تعريفاتها، جميع تلك التعريفات تتفق على أنه بعكس عملية التطور (Evolution)، فإن الثورة (Revolution) تعني الجهد المبذول لتغيير المؤسسات السياسية أو السلطة، في فترة زمنية وجيزة نسبيًا. بعض التعريفات تضيف عنصر المظاهرات الجماعية. إلا أن تعريف الثورة لا يزال مسألة تنطوي على مشكلات بالغة الصعوبة، إذ يغيب الإجماع حول متى يجب أن نسمي التغيير السياسي ثورة.[5]

مع تسمية بعض المصريين خلع الرئيس محمد مرسي “الثورة الثانية”، فإننا بصدد مثال على التنازع والخلاف حول مفهوم الثورة. ففي الفترة من الثلاثين من يونيو إلى الثالث من يوليو 2013، خرج ملايين المصريين في مسيرات إلى الشوارع مطالبين بتنحي مرسي، أو داعين إلى انتخابات رئاسية مبكرة. في الثالث من يوليو 2013 قام الجنرال عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع حينئذ بعزل مرسي من الرئاسة مع حبسه. وصف أنصار مرسي ما حدث بالانقلاب، ووصفه أغلب المعلقين الدوليين بالانقلاب العسكري أيضًا. لكن من خرجوا إلى الشوارع ضد مرسي وصفوه بالثورة. في الوقت نفسه، فقد وُصف ما حدث في البرتغال عام 1974 بالانقلاب العسكري رغم تسمية تلك الأحداث بـ”ثورة القرنفل”؛ وذلك غالبًا بسبب خروج أعداد كبيرة لدعم العسكر في محاولتهم إنهاء حكم النظام السلطوي.

تشريح الثورة

كتب باحث هارفارد كرين برينتون في عام 1965 كتابًا بعنوان “تشريح الثورة”[6] وفيه يحاول التعرف على نسق أربع ثورات كبرى: الثورة المجيدة (1688) والثورة الأمريكية (1765) والثورة الفرنسية (1789) والثورة الروسية (1917). يستخدم الكاتب الثورة الفرنسية كنموذج مثالي ويقسم الثورات الكبيرة إلى مراحل أربع: حكم الوسطيين، وعهد الرعب والفضيلة، ترميدورين، نهاية الثورة.

تاريخ الثورة الفرنسية معروف للجميع.[7] ففي الخامس من مايو 1789 استدعى الملك لويس السادس عشر ممثلي طوائف المجتمع إلى فرساي لمناقشة الإصلاحات الضريبية. اختلفت الطائفة الثالثة حول نظام التصويت، والذي بموجبه يتم تمثيل خمس وعشرون مليون نسمة بنفس الوزن في التمثيل بالمقارنة بالطائفتين الأُخريات الأصغر كثيرًا، طائفتي رجال الدين والنبلاء. مع عدم الوفاء بمطالبهم، تحركت الطائفة الثالثة للاجتماع وحدها وأعلنت للمرة الأولى الجمعية الوطنية، ثم أعلنت في التاسع من يوليو 1789 عن جمعية الدستور الوطني. اشتدت أجواء الثورة، وفي الرابع عشر من يوليو داهم 954 شخصًا سجن الباستيل، بوسط باريس والرمز المكروه للطغيان.

بعد الأحداث الثورية وفترة قصيرة من “شهر العسل”، وهي مرحلة الثورة الأولى، بدأت مرحلة “حكم الوسطيين”. تحت قيادة الجيروندينز (حزب سياسي فرنسي وسطي) وعناصره من أمثال ماركيز دي لافييت وأونري-غبرييل ريكيتي وكومت دي ميرابيو، تم تقديم “إعلان حقوق البشر والمواطنين”، فضلًا عن دستور جعل فرنسا ملكية دستورية. يمكن إرجاع سقوط الوسطيين إلى فشلهم في الوفاء بوعود الثورة، وإخفاقهم في إيقاف العنف مع غزو النمسا وبروسيا لفرنسا.

مهد فشل الوسطيين الطريق أمام الثوار الأكثر تطرفًا لتولي السلطة. قامت مجموعة جيدة التنظيم من الراديكاليين بتنظيم هجوم على قصر التويليري في باريس وتخلصوا من الملكية في العاشر من أغسطس 1792. استولى اليعقوبيين أنصار روبسبيار على السلطة في العاشر من أغسطس 1793 وبدأوا “عهد الرعب والفضيلة”، وهو المرحلة الثانية بحسب تعريف برينتون للثورة. صاغت الجمعية الوطنية الجديدة دستورًا جديدًا. الكثر أهمية هنا  أنه تحت قيادة ماكسميليان روبسبيار –”غير القابل للإفساد”– كان كل شخص “فاسد” –ضد الثورة ومبادئها– عُرضة للإعدام بالمقصلة، وسرعان ما تم إعدام نحو تسعة عشر ألف شخص. وإلى جانب عهد الرعب كان هناك أيضًا عهد الفضيلة. فقد استخدم اليعقوبيون الخطاب الديني ونظموا اجتماعات دينية الطابع. غيروا أسماء الشوارع والساحات وفرضوا تقويمًا جديدًا. كانوا ضد القمار والسكر والتجاوزات الجنسية من أي نوع، وبدوا بمظهر الفقر والتواضع. وفي الوقت نفسه، فقد شنّ روبسبيار وقواه الثورية حربًا في فيندي ضد القوات الموالية للملكية، توفي على إثرها ما يُقدر بمائتي ألف نسمة.

في السابع والعشرين من يوليو 1794(التاسع من تيرميدور من العام الثاني) تآمر جميع أعضاء الجمعية تقريبًا ضد روبسبيار الذي أُعدم دون محاكمة ومعه اثنين وعشرين شخصًا من أقرب أعوانه. أما النظام التريميدوري الجديد –المرحلة الثالثة من الثورة، بحسب برينتون– فقد أتاح حرية المعتقد الديني للمواطنين الفرنسيين مرة أخرى. وبدوره، بدأ ذلك النظام في عملية “إرهاب أبيض”، فاضطهد وسجن وأعدم مئات المتعاطفين مع روبسبيار. وتم خلال تلك الفترة صوغ دستور ثالث، نال الموافقة في استفتاء بنسبة 95.4%. وبعد عامين من الاستقرار النسبي، بدأ أعضاء الإدارة السياسية الخمسة في الاقتتال فيما بينهم؛ ما أدى بدوره إلى انقلاب آخر في الرابع من سبتمبر 1797 (الثامن عشر من فروكتيدور من العام الخامس)، وحملات دموية جديدة، وسوء إدارة للاقتصاد على نطاق هائل.

بدأت المرحلة الرابعة –أي مرحلة نهاية الثورة– بانقلاب نابليون بونابرت في التاسع من نوفمبر 1799. تم وضع دستور جديد، ووضع نظام القناصل. على أن بونابرت نفذ انقلابًا آخرًا، وعيّن نفسه القنصل الأول. ومرة أخرى، تم اعتماد دستور جديد في استفتاء بنسبة موافقة بلغت 99.9%. وفي العام 1802 تم عقد استفتاء جديد (بنسبة موافقة 99.8%) أكد أن نابليون هو “القنصل الأول مدى الحياة”. وبعد عامين، أصدر مجلس الشيوخ قانونًا بإلغاء الجمهورية الأولى وبتدشين الإمبراطورية الفرنسية، مع تنصيب بونابرت إمبراطورًا.

باقي التاريخ الفرنسي معروف جيدًا بدوره، مع تعاقب الأنظمة، من جمهوريات ونظم ملكية وإمبراطوريات. دام هذا الأمر حتى 1870، عندما أصبحت فرنسا نظامًا ديمقراطيًا مستقرًا في عهد الجمهورية الثالثة. كان دستور عام 1875 هو الدستور الرابع عشر منذ اندلاع الثورة الفرنسية قبل ست وثمانين عامًا.[8]

مراحل الثورة العربية الأربع

بناءً على التقييم المبدئي، فإن دراسة الثورة العربية، مقارنةً بالثورة الفرنسية، قد تبدو غير عملية أو مفيدة. والسبب الأوضح هنا هو أنه على النقيض من الحالة الفرنسية، فإن الثورة العربية لم تقتصر على دولة واحدة. فكل دولة بالعالم العربي تعرضت لمسار تاريخي مختلف، وترتيب أحداث فريد من نوعه شكّل خصوصية حالتها بعيدًا عن الحالات الأخرى. من الواضح على سبيل المثال أن الثورات في تونس وسوريا كانت لها نتائج مختلفة كل الاختلاف. لكنني أرى أن هناك بعض أوجه التشابه بين الثورة الفرنسية والثورة العربية، أكثر مما يمكن للكثيرين توقعه.

أولًا، الأحداث الثورية في العالم العربي بدأت في تعاقب سريع، مع اشتعال الأحداث في دولة تلو الأخرى.[9] عندما أشعل محمد البوعزيزي النار في نفسه في السابع عشر من ديسمبر 2010، اشتعلت المظاهرات في أرجاء تونس. وفي الرابع عشر من يناير 2011 فرّ الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى السعودية. وفي اليوم نفسه، بدأ الناس بالاحتجاج في الأردن. وفي الخامس والعشرين من يناير تجمع آلاف المصريين في ميدان التحرير. وفي الحادي عشر من فبراير بعد ثمانية عشر يومًا من النضال، عزل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الرئيس حسني مبارك. وفي الثالث من فبراير بدأت المظاهرات في اليمن، ثم في ليبيا (السابع عشر من فبراير) والبحرين (التاسع عشر من فبراير) والمغرب (العشرين من فبراير). وفي الشهر التالي، مارس، خرجت المظاهرات في كل من السعودية وسوريا، في الرابع عشر والخامس عشر من الشهر على التوالي. وفي فترة زمنية قصيرة للغاية، تأثر ما لا يقل عن تسع دول بالأحداث الثورية.

كانت نتائج هذه السياقات الثورية التسع متباينة من حالة لأخرى. ففي تونس ومصر واليمن، تم خلع الحكام الديكتاتوريين بسبل سلمية بشكل نسبي. في المغرب والأردن، تم الوعد بإصلاحات من قبل الملكين. وفي البحرين والسعودية، تم سحق المظاهرات من قبل الجيش. وفي ليبيا وسوريا، أدت المظاهرات إلى حرب أهلية. وبمساعدة من الناتو، انتهت الحرب الليبية بمقتل معمر القذافي. وفي سوريا، تستمر الحرب. لكن كما حدث في فرنسا، فإن فترة “شهر العسل” القصيرة جاءت بعد الانتصارات الثورية الأولى في تونس ومصر واليمن وليبيا والمغرب والأردن.

إذا نظرنا إلى مراحل الثورة الأربع –كما عرّفها برينتون، يمكننا أن نجد مناط مقارنة. باستخدام مصر كمثال، يمكننا القول أنه بعد اندلاع الثورة جاء “حكم الوسطيين”، من المجلس العسكري. حاول الجيش قيادة مصر إلى انتخابات ديمقراطية، أو على الأقل بدا أنه يحاول، دون الكثير من الفوضى، حتى وإن تم استخدام العنف المميت والدموي في حالات عديدة. ومع ربح الإخوان المسلمين للانتخابات في 2011 و2012، تمكنوا من بدء “عهد الفضيلة” وإن كان يصعب تسميته “عهد الرعب” حتى وإن أحس الناس في مصر أنهم تحت حكم (إسلامي) لا يحبونه. مرحلة تيرميدور المصرية تبدأ بثورة الثلاثين من يونيو 2013، ثم انقلاب السيسي في الثالث من يوليو. وبعد عام من حكم الرئيس الانتقالي عدلي منصور، وعهد “الإرهاب الأبيض” ضد الإخوان المسلمين ونشطاء الثورة الآخرين، مع وقوع مذابح واعتقال عشرات الآلاف، ربح المشير عبد الفتاح السيسي الانتخابات بنسبة 96.1% من الأصوات، ما أشر بانتهاء الثورة، أو مرحلة الثورة الرابعة، بحسب برينتون. ومثل الثورة الفرنسية، فإن كل مرحلة من الثورة المصرية صنعت دستورها.

حتى إذا كانت مراحل الثورة الأربع التي وضعها برينتون لا تنطبق بدقة على الحالة المصرية، فهناك أوجه شبه مذهلة. لكن مقارنة حكم مرسي بحكم روبسبيار يبدو غير منصف لمرسي والإخوان المسلمين. وعلى الجانب الآخر، فإن التطرف البالغ والإرهاب والتفكير بطريقة إما الفضيلة أو الموت، يذكرنا بقوة بالدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”. مثل روبسبيار ويعاقبته، فإن داعش جاءت بـ “عهد الرعب والفضيلة” في سوريا والعراق وسيناء وأجزاء من ليبيا واليمن والسعودية.

في كل دولة مرّ عليها الربيع العربي، نرى الوسطيين (ثوار وسطيين وإخوان مسلمين) يصلون إلى الحكم. في مصر، أخرجت الثورة المضادة الوسطيين، أو مرحلة تيرميدور. في سوريا، تم التغلب على الوسطيين وأخرجهم عهد رعب وفضيلة داعش من الصورة. وفي ليبيا، أدى القتال بين الوسطيين إلى حرب أهلية. وفي لحظة بعينها، جاء رمز مرحلة تيرميدور إلى الصورة ليتغلب على الثوار الوسطيين، مثل الجنرال خليفة حفتر، في حين أن الوسطيين الإسلاميين (الإخوان المسلمين) قد غلبهم المتطرفون. وفي المغرب، أخذ الملك معه الإسلاميين الوسطيين إلى الحكومة. وفي الأردن، بدأ الملك بإصلاح النظام، إلا أن إصلاحاته تعطلت.

جذور الثورة الفرنسية

كان للثورة الفرنسية أسباب اقتصادية واجتماعية وديموغرافية وسياسية. واجهت فرنسا الإفلاس في نهاية ثمانينيات القرن الثامن عشر، فقد واجهت الدولة ديونًا هائلة بعد هزيمتها في حرب السبعة أعوام (1756-1763) ضد بريطانيا، وبعد أن دعمت حرب الاستقلال الأمريكية (1775-1783). مع القتال لتوسيع والدفاع عن قوتها الاستعمارية من أجل التمكن من منافسة بريطانيا، استثمرت فرنسا بقوة في قواتها البحرية. من ثم، أدت القروض –نظرًا لأسعار الفائدة العالية عليها– إلى أزمة اقتصادية طاحنة.[10] بالإضافة إلى ذلك، ساهم انهيار أغلب مصانع القطن الفرنسية بعد اتفاق التجارة الحرة حول القطن مع بريطانيا في عام 1786، في انتشار البطالة والفقر في أنحاء شمال فرنسا.[11]

وفي الوقت نفسه، تحمل الشعب الفرنسي العبء الثقيل للضرائب؛ حيث كافح المواطنون، لا سيما الفلاحين، في إطعام أسرهم، بينما عاش الملك والنبلاء حياة من البذخ. أدى هذا التفاوت الكبير في الظروف المعيشية إلى احتقار الطبقات الحاكمة. وفي الوقت نفسه، أدت بعض المواسم من الشتاء القارس وضعف المحاصيل إلى ارتفاع أسعار الخبز، وإلى المجاعة.[12]

حاول الملك لويس السادس عشر تنفيذ إصلاحات، فعيّن وزراء جدد لكن سرعان ما تخلص منهم عندما رفض النبلاء الإصلاحات المقترحة. وبإلهام من أفكار التنوير، تزايد عدد المطالبين بإصلاحات وبالمزيد من الشفافية في الميزانية. كان هذا النضال، وانسداد النظام السياسي، هو ما ألزم لويس السادس عشر بعقد اجتماع طوائف المجتمع العام للمرة الأولى منذ عام 1614.[13]

أما الجانب الاجتماعي للثورة الفرنسية فتعود جذوره إلى النمو غير المنظور للسكان. ففي عام 1700 كان في فرنسا 20 مليون نسمة، وفي عام 1789 أصبح السكان 30 مليون نسمة. وكان في باريس نحو 600 ألف نسمة، ما جعلها حينئذ ثاني أكبر مدينة في العالم بعد لندن. دائمًا ما يعني النمو السكاني المتسارع زيادة حادة في نسبة الشباب، بطموحهم الواسع. إذا لم تكن هناك فرص للحراك الاجتماعي، يتحول ذلك الطموح إلى إحباط وغضب. وفي فرنسا قبل الثورة، كانت طوائف الحرفيين، التي تشمل أغلب الاقتصاد، تحجم عن إضافة الأعضاء الجدد، مع محدودية فرص العمل. وفي الحكومة، كان المسئولون يشترون مناصبهم أو يرثونها عن آبائهم.[14]

يكمن السبب السياسي للثورة الفرنسية في مزيج من الفساد والطغيان وعدم القدرة على الإصلاح، وسياسات الإدارة الشرطية القمعية. ففي أغلب منشوراته، هاجم فولتير الفساد فيما يتعلق بشراء المناصب، في حين هاجم ميرابو عدم وجود إصلاحات ضريبية وإصلاحات متعلقة بالميزانية.[15] لم يكن الاضطهاد سياسيًا فحسب، بل كان اقتصاديًا أيضًا. ومع حظر فرنسا استيراد القطن الآسيوي والتبغ الأمريكي ومنتجات أخرى، بدأ الناس في تهريب هذه السلع إلى البلاد، من أجل تحقيق دخل إضافي لعائلاتهم. أدت سياسة مكافحة التهريب –المعروفة بمسمى “المزرعة”– إلى حرب ضد المهربين، لقي الكثيرون حتفهم خلالها.[16]

جذور الثورة العربية

مثل الثورة الفرنسية، فإن أسباب الثورة العربية كانت اقتصادية واجتماعية وديموغرافية وسياسية. عندما هتف المتظاهرون: “عيش، حرية، كرامة، عدالة” أثناء الربيع العربي، كانوا يشيرون إلى المشكلات المذكورة نفسها. لم تكن مصادفةً أن الثورة العربية بدأت بمحمد البوعزيزي، وهو بائع شاب أشعل النار في نفسه بعدما صادرت شرطية تونسية عربة الخضراوات خاصته. كان بوعزيزي يبيع الخضراوات لينفق على أمه وشقيقته وليدفع إيجار شقتهم. وفي سبيل شرائه لتلك العربة، باع جميع ممتلكاتهم. عندما صادرتها الشرطية منه، كان الأمر بمثابة كارثة عليه. إضافةً إلى هذا، عندما طلب من الشرطية أن تعيد إليه العربة، صفعته على وجهه. لم ير حلًا سوى أن يقتل نفسه.[17]

أشعلت واقعة البوعزيزي الثورة العربية لأن الكثير من السكان بالمنطقة العربية رأوا أنفسهم في كفاحه الاقتصادي، في حين تعيش النخب في بذخ بفضل الفساد والسرقة. في 2011، كانت المعدلات الرسمية للبطالة في تونس تبلغ 14% من إجمالي السكان، وتبلغ 30% في الشريحة العمرية بين 15 و30 عامًا.[18] وبلغت نسبة السكان العرب الذين يعانون من الفقر المدقع –تحت 1.25 دولارًا في اليوم– معدلات عالية بلغت 17% في تونس، وأكثر من 26% في مصر، وتعدت 50% في اليمن.[19]

في العالم العربي، كما في فرنسا في عهد الثورة، حدث انفجار سكاني؛ فقد تضاعف تعداد السكان بالدول العربية ثلاثة أضعاف، منذ عام 1970، إذ زاد العدد من 128 مليون نسمة إلى 359 مليون نسمة بحلول عام 2010، وهو العام الذي شهد بداية الثورة العربية.[20] في 2010، كان سكان المنطقة العربية شبابًا للغاية، حيث مثَل الأطفال تحت سن 15 سنة أكثر من ثلث السكان، ويمثل الشباب بين 15 و24 عامًا خُمس نسبة السكان؛ ما جعل أغلب سكان المنطقة –54% تحت سن 25 حاليًا– من الشباب.[21] هذه الكتلة السكانية الشابة هي التي أصابها الغضب والإحباط بسبب جمود النظامين الاقتصادي والاجتماعي وغياب الفرص. ففي عدة دول عربية، لا يمكن للرجل أن يتزوج إلا إذا كان يملك شقة، وبدون العمل، يصبح من شبه المستحيل شراء شقة. وفي المجتمع الذي لا تكون العلاقات الجنسية فيه مقبولة إلا في إطار الزواج، فإن هذه الفئة المظلومة من الشباب لديها أسباب إضافية للإحباط والغضب.

وفي أغلب الدول العربية، يتولى الرؤساء مناصبهم مدى الحياة، وإذا تم تنظيم انتخابات، فإنها تكون مزورة. وقد تكون الانتخابات البرلمانية أكثر حرية في بعض الدول، ولكن بما أن البرلمانات ليست لديها سلطة حقيقية أو قدرة فعالة على تغيير أو إصلاح النظام، فهناك، وبوضوح، افتقار إلى الحريات السياسية. في لبنان وسوريا، أصبح تولي المنصب الرسمي شأنًا عائليًا حيث يخلف الأبناء آبائهم. وفي مصر، كان حسني مبارك يُعد للأمر نفسه مع ابنه جمال. حقيقة أن القوى السياسية لم تتمكن –أو لم تكن مستعدة– للاستثمار في الخدمات الصحية والتعليمية، زادت من قوة الرغبة في التغيير.

وأخيرًا، فإن الأصل الأخير والأهم ربما للثورة العربية تمثل في القمع والعنف الشرطي. إذ لم يتم حرمان البوعزيزي من مصدر دخله الاقتصادي فحسب، وإنما تعرض أيضًا للصفع من قِبل شرطية. في ليبيا وسوريا، هناك معدلات عالية للغاية من القمع وقسوة الشرطة. وفي مصر، ففي الشهور السابقة على الثورة التي بدأت في الخامس والعشرين من يناير 2011، تعرض الشاب خالد سعيد للضرب المفضي إلى الموت من قبل قوات الأمن؛ بعدما نشر مقاطع فيديو لعنف الشرطة على الإنترنت. التقطت شقيقته صورة لوجه خالد سعيد الذي تعرض للضرب والتشويه ونشرتها على الإنترنت. وهو ما أثار موجة عارمة من الغضب، وبدأت صفحة على فيسبوك تُدعى “كلنا خالد سعيد” إطلاق وتعميم الدعوة إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير.

إذن فإن جذور الثورتين الفرنسية والعربية متشابهة للغاية: الفقر، الفساد، الانفجار السكاني، سوء الإدارة السياسية، عدم القدرة على الإصلاح، غياب الحريات السياسية، وأخيرًا عنف جهاز الدولة الذي يقتل المواطنين. ورغم أن الثورة العربية أكثر تعقيدًا من الثورة الفرنسية إذ اتسع نطاقها، لتشمل عددًا من الدول، فمن الممكن للمرء أن يرى أنها تتبع هيكل الثورات الكبيرة الأخرى نفسه؛ إذ تحقق فيها حكم الوسطيين ثم عهد الرعب ثم مرحلة تيرميدور (أو الثورة المضادة) وعودة الرجل القوي في المرحلة الرابعة والأخيرة. بمعنى آخر، يجب ألا يصف المرء الأحداث التي بدأت في تونس في ديسمبر 2010 وأطلقت موجة من الاحتجاجات في 2011 بالربيع العربي، فهناك أدلة كافية لوصفها بالثورة العربية.

هل الانتفاضة السودانية أيضاً ثورة؟

في عام 1989، بعد ثلاثة وثلاثين عامًا من استقلال السودان عن مصر، قام الكولونيل عمر حسن البشير بالانقلاب على الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا لرئيس الوزراء الصادق المهدي، في انقلاب عسكري غير عنيف. في عام 1993، قام البشير بحلّ المجلس العسكري الذي جلبه إلى السلطة وتولى جميع سلطاته بنفسه. جمّد تكوين الجمعيات والمنظمات، والأحزاب السياسية، والصحف المستقلة، وعيّن نفسه رئيسًا للسودان. في تلك اللحظة، كان السودان يحارب بالفعل منذ عشرة أعوام ضد المتمردين في جنوب السودان. ورغم أن الناس في جنوب السودان مسيحيون في الأغلب الأعم، ففي عام 1983 فرضت الحكومة المركزية في الخرطوم الشريعة الإسلامية على جميع مناطق الدولة، ما أدى إلى إطلاق حرب أهلية ثانية. عندما جاء البشير إلى السلطة، لم يغير ذلك القانون، إنما زاد من فرضه وتطبيقه. اصطف البشير إلى جانب الترابي في الجبهة الإسلامية الوطنية. وقاما معًا بفرض تفسيرات أكثر قسوة للشريعة على السودان.

وفي عام 2003 خرج المتمردون في غرب السودان ضد الحكومة المركزية في حركة مسلحة؛ إذ شعروا بالتمييز ضد السودانيين من غير العرب. قابلت الحكومة ذلك بتسليح الميليشيات العربية التي ارتكبت –طبقًا للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي– جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وأعمال إبادة جماعية، أصدرت المحكمة أمريّ توقيف بحق الرئيس البشير. وفي الشهور السابقة على استقلال جنوب السودان في عام 2011، اندلع نزاع آخر في ولايات جنوب كردفان والنيل الأزرق. وكان أحد عناصر تسوية هذا النزاع في 2013 تعهد البشير بعدم الترشح في عام 2015، إلا أنه خالف هذا التعهد وفاز بفترة رئاسية جديدة للسودان.[22]

جذور الاحتجاجات السودانية

إذا نظرنا إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي والسياسي في السودان، فسنرى صورة مشابهة للدول العربية قبل لحظة 2011. فبحسب برنامج الغذاء العالمي بالأمم المتحدة، فإن السودان من أفقر دول العالم. كما يحتل المركز 167 من بين 189 دولة في مؤشر التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ومن بين السكان البالغ عددهم 43 مليون نسمة، يعاني 2.5 مليون نسمة من التشرد الداخلي ويفتقر 5.7 مليون نسمة إلى الأمن الغذائي، مع احتياجهم إلى المساعدات الغذائية، كما تتزايد أعداد المحتاجين.[23] وبحسب البنك الدولي، فإن 46.5% من السكان يعيشون تحت خط الفقر.[24]

في عام 1970، كان تعداد السودان يبلغ 15 مليون نسمة. وفي عام 2018 بلغ التعداد –بحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي– 43 مليون نسمة. وهو العدد نفسه الذي قدره البرنامج في عام 2010. إذن ورغم أن السكان قد تضاعفوا ثلاثة أضعاف بحسب الإحصاءات الرسمية، ففي واقع الأمر لا يوجد شك في أن الانفجار السكاني أكبر بكثير. ويبلغ متوسط عمر السكان 19 عامًا، في حين أن 63% من السكان أصغر من 24 عامًا، وهي النسبة الأكبر إلى حد بعيد مقارنةً مع المتوسط العربي البالغ 56%.[25]

كان واضحًا غياب الحريات السياسية في السودان، فطبقًا لمؤسسة “فريدوم هاوس”، جاءت السودان في المرتبة السابعة من حيث أقل الدول حرية في العالم، فالنظام السياسي السوداني “يهيمن عليه رئيس سلطوي، هو عمر البشير، وحزب المؤتمر الحاكم، ويعتمد على القمع والرشوة للاحتفاظ بالسلطة. يقمع النظام بالعنف مختلف الجماعات على خطوط جغرافية ودينية وعرقية، ممن لا يشاركون النظام رؤيته القومية الضيقة. يعاني المجتمع المدني من قيود مشددة، كما لا تُحترم الحقوق الدينية، ويخضع الإعلام لرقابة لصيقة”.[26]

تعتبر انتهاكات الشرطة وعنفها حقيقة معروفة في السودان. وبحسب كليف روبيرسون (2017)، فإن السودان “لديه سمعة كونه من أكثر دول العالم فسادًا. تشمل المؤسسات الفاسدة في السودان مؤسسة الشرطة. فالشرطة السودانية موصومة بالابتزاز والرشوة واستخدام العنف والتنكيل بالمواطنين الذين يشتكون من انتهاكات الشرطة”.[27]

كما استعان النظام السوداني بميليشيات عربية تُدعى “الجنجويد” في تنفيذ أنشطة دموية وغاشمة. وطبقًا للموسوعة البريطانية فإن “الميليشيات العربية – التي يُشار إليها مجتمعة بمسمى الجنجويد – تم تنظيمها كقوات لمكافحة التمرد. مع إمدادها بالأسلحة ومعدات الاتصالات من قبل المخابرات العسكرية السودانية، كما غيرت قوات الجنجويد –التي اتسمت بالقدرة العالية على التنقل والحركة– مسار المعركة في دارفور؛ إذ قامت باستئصال جيش تحرير السودان، وشنت ما وصفه المراقبون الدوليون بحملة تطهير عرقي بحق الفور والمساليت والزغاوة. كانت مداهمة الجنجويد تبدأ بغارة من القوات الجوية السودانية، مع إطلاق المروحيات وطائرات الأنطونوف للذخائر واستهداف التجمعات المدنية. وفي ظرف ساعات، يداهم الجنجويد على ظهر السيارات المنطقة ويقتلون ويشوهون الرجال ويغتصبون النساء ويقتلون ويختطفون الأطفال. ثم يقوم المهاجمون بتدمير البنية الأساسية لحياة القرية، فيحرقون الحقول والمنازل ويسممون الآبار ويصادرون أي شيء ذو قيمة. وفي الفترة من 2003 إلى 2008، قُتل مئات الآلاف، ونزح الملايين جراء استهداف الجنجويد السكان المدنيين في أنحاء دارفور”.[28]

مراحل الثورة السودانية

بدأ الناس في التظاهر في عدة مدن بالسودان منذ التاسع عشر من ديسمبر 2018. انطلقت المظاهرات بسبب قرار الحكومة برفع أسعار الخبز من جنيه إلى ثلاثة جنيهات سودانية.[29] ومن الشكوى من ارتفاع أسعار الخبز، سرعان ما تحولت الاحتجاجات إلى دعوات بالإصلاح السياسي وبتنحي الرئيس البشير. وفي الثاني والعشرين من فبراير أعلن الرئيس حالة الطوارئ. وبعد خمسة أشهر من الاحتجاجات والعصيان المدني، قام الجيش السوداني بعزل البشير في الحادي عشر من أبريل 2019.

وعلى النقيض من المتظاهرين في مصر الذين تركوا ميدان التحرير في اليوم التالي على رحيل مبارك، مكث الناس في الشوارع في السودان، وطالبوا بتغيير النظام بالكامل. في الحادي عشر من أبريل عيّن الجيش المجلس العسكري الانتقالي تحت قيادة الفريق عوض بن عوف، الذي استقال في اليوم التالي تحت وطأة المظاهرات. جاء بعده الفريق عبد الفتاح البرهان وهو المفتش العام للجيش. وفي الثالث من يونيو 2019 هاجمت القوات المسلحة المتظاهرين وقتلت أكثر من مائة واغتصبت سبعين امرأة.[30]

وفي يوليو 2019 انتهت المفاوضات بين المجلس العسكري الانتقالي ومجموعات المعارضة باتفاق[31] أُبرم في السابع عشر من يوليو بتشارك السلطة لمدة تسعة وثلاثين شهرًا، وبعدئذ يتم تنظيم انتخابات ديمقراطية. سوف يبقى عبد الفتاح البرهان رئيسًا للدولة إلى ذلك الحين. وفي الحادي والعشرين من أغسطس تم تعيين عبد الله حمدوك –وهو مدني– رئيسًا لوزراء السودان. وفي نوفمبر 2019، قامت الحكومة الجديدة بحلّ الحزب الحاكم السابق وألغت جملة من القوانين التي وضعها البشير لتنظيم حياة النساء. وبهذه الطريقة، لبت الحكومة مطالب أساسية للمتظاهرين.[32]

خاتمة

إن وصف الثورة العربية بمسمى الربيع العربي مسألة تنطوي على ظلم تاريخي. فالثورة العربية فيها جميع عناصر الثورة الحقيقية، مثل الثورة الفرنسية تمامًا. ومثل فرنسا بعد عام 1789، مرّ العرب بمراحل حكم الوسطيين والمتطرفين والثورة المضادة والجنرالات الذين يريدون إنهاء الثورة. ومثل الثورة الفرنسية، فإن أسباب الثورة العربية تكمن في أوجه الظلم الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي، وفي القمع والافتقار للحقوق السياسية.

إننا إذا نظرنا إلى حالة السودان، فسوف نرى بوضوح أن جميع عوامل الثورة التي رأيناها في الثورة الفرنسية وفي دول المنطقة العربية، متوفرة في حالتها، قبل الانتفاضة السودانية التي اندلعت في التاسع عشر من ديسمبر 2018. تضاعف السكان ثلاثة أضعاف، وبلغ الفقر مستويات هائلة، وكانت الديكتاتورية في يد مجرم حرب، وكثر التضييق على الحريات، فضلًا عن زيادة معدلات القمع والفساد وعنف الشرطة.

مع تنحي البشير في الحادي عشر من أبريل 2019، قبل تسعة أشهر فقط من كتابة هذا المقال، فلا يزال مبكرًا للغاية تأكيد أن الانتفاضة السودانية ستمر بمراحل الثورة الأربع كما عرّفها كرين برينتون. لكن من الواضح أن السودان يحكمه حاليًا وسطيون يحاولون إحداث قطيعة مع الماضي دون تغيير النظام القانوني بالكامل. من المستحيل التنبؤ بالوضع في السودان خلال الشهور والسنوات القادمة، لكن يبدو أن هناك أسباب كافية للقول بأن مسار الأحداث في السودان مشابه لمسار أحداث الثورة العربية عمومًا. وبناءً عليه، يمكن استنتاج أن الانتفاضة في السودان هي في واقع الأمر الثورة السودانية.

[1] على سبيل المثال رويترز https://www.reuters.com/article/us-sudan-politics-arabs/arab-spring-comes-later-in-sudan-and-algeria-idUSKCN1RQ0B4 أو فرانس 24  https://www.france24.com/en/20190503-video-reporters-sudan-spring-omar-al-bashir-protest-uprising

[2] ديبوف، كورت (2014)، داخل الثورة العربية: ثلاث سنوات على الجبهة الأمامية للربيع العربي  Inside the Arab] Revolution. Three Years on the Front Line of the Arab Spring] (لوفن: لانو كامبس).

[3] على سبيل المثال [بالفرنسية]: Pierre Baylou (2011) ‘Printemps arabe, une victoire de George Bush?’, Le Point, 3 March, تمت الزيارة في 10 ديسمبر 2019 على رابط: https://www.lepoint.fr/monde/ou-va-le-monde-pierre-beylau/printemps-arabe-une-victoire-de-george-bush-04-03-2011-1302777_231.php وانظر سياتل تايمز (2005) [بالإنجليزية] الربيع العربي لعام 2005 ‘The Arab Spring of 2005’, The Seatlle Times, 21 March, تمت الزيارة في 10 ديسمبر 2019 على رابط: https://www.seattletimes.com/opinion/the-arab-spring-of-2005/

[4] دير شبيجل (2011) “البرادعي عن فرص الديمقراطية في مصر”:

https://www.spiegel.de/international/world/elbaradei-on-democracy-s-chances-in-egypt-we-could-experience-an-arab-spring-a-743825.html 

[5] طبقًا لقاموس الفكر الحديث “نيو فونتانا” (الطبعة الثالثة، 1999)، أ. بولو كوس. ترومبلي (محرران)، ص ص 754-746 فإن “الثورة هي تغير رئيسي ومفاجئ نسبيًا في السلطة السياسية والتنظيم السياسي، وهي تحدث عندما تندلع الانتفاضات الشعبية ضد الحكومات، عادةً بسبب تصورات ومدركات بالقمع (السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي) أو عدم الكفاءة السياسية”.

[6] برينتون، كرين (1965) تشريح الثورة، [The Anatomy of Revolution] (نيويورك: فينتيدج).

[7] هيبرت، كريتوفر (1980) الثورة الفرنسية وهوبسباوم (1996، 1962) عصر الثورة، وحنا أرندت (2004، 1963) حول الثورة ودويل ويليام (2013) فرنسا وعهد الثورة وفيكتور هوجو (2001، 1874) [المصادر بالإنجليزية]:

Hibbert, Christopher (1980) The French Revolution (London: Allen Lane), Hobsbawn, Eric (1996, 1962) The Age of Revolution (New York: Vintage) pp. 54 – 76. Arendt, Hannah (2004, 1963) Over Revolutie (Amsterdam/Antwerpen: Atlas), Doyle, William (2013) France and the age of revolution (London/New York: I.B.Tauris), Hugo, Victor (2001, 1874) Quatrevingt-Treize (Paris: Liberairie Général Française)

[8] بويرون، صوفي (2012) دستور فرنسا: تحليل سياقي [The Constitution of France: a contextual analysis] (لندن: بلومزبيري).

[9] يعتمد هذا العرض الموجز على ورقة: Debeuf (2014).

[10] هانت، لين (2013) “الأصول المالية العالمية لـ 1789″، [The Global Financial Origins of 1789] (لندن\إيثاكا: جامعة كورنيل للنشر).

[11] والتن، تشارلز (2013)، “السقوط من الجنة: أصول الثورة الفرنسية المتصلة بالتجارة الحرة”، [The Fall from Eden: The Free-Trade Origins of the French Revolution].

[12] كواس، مايكل (2013)، “التهريب والتمرد وأصول الثورة الفرنسية”، [The Global Underground: Smugglin, Rebellion, and the Origins of the French Revolution].

[13] السابق.

[14] دويل (2013).

[15] السابق.

[16] كواس (2013).

[17] دي سوتو، هيرناندو (2011)، “محمد البوعزيزي الحقيقي”، فورين بوليسي [بالإنجليزية]:

De Soto, Hernando (2011) ‘The Real Mohamed Bouazizi’, Foreign Policy, 16 December , accessed 15 December 2019. https://foreignpolicy.com/2011/12/16/the-real-mohamed-bouazizi/

[18] كامبمارك، بينوي (2019)، “الفساد في تونس: فساد حكم بن علي”، [بالإنجليزية]:

Kampmark, Binoy (2019) ‘Rotten in Tunisia: the corrupt rule of Ben Ali’, Global Research., 22 September, accessed 16 December 2019. https://www.globalresearch.ca/tunisia-corrupt-rule-ben-ali/5689840

[19] عبد الغفار، عادل، ومصري، فراس (2016) “استمرار الفقر في العالم العربي” [بالإنجليزية]:

Abdel Ghafar, Adel and Masri, Firas (2016) ‘The Persistence of Poverty in the Arab World’, Brookings, 28 February, accessed 14 December 2019. https://www.brookings.edu/opinions/the-persistence-of-poverty-in-the-arab-world/

[20] ميركين، باري (2010)، “معدلات السكان وتوجهات وسياسات المنطقة العربية: التحديات والفرص” برنامج الأمم المتحدة الإنمائي [بالإنجليزية]:

Mirkin, Barry (2010) ‘Population Levels, Trends and Policies in the Arab Region: Challenges and Opportunities’, United Nations Development Program, accessed 14 December 2019. https://www.undp.org/content/dam/rbas/report/Population%20Levels,Trends.pdf

[21] السابق، ص 11.

[22] ملخص قائم على: دالي م.، هولت ب. م. (2000) “تاريخ السودان” وكولينز روبرت (2008) “تاريخ السودان الحديث” ورولاندسن أويستاين هـ. (2017) “تاريخ جنوب السودان” وتيبي بسام (2008) “الإسلام السياسي والسياسة العالمية وأوروبا” [المصادر بالإنجليزية]:

Daly, M., Holt, P.M. (2000) The History of Sudan: from the coming of Islam to the present day (Harlow: Pearson), Collins, Robert (2008) A History of Modern Sudan (Cambridge/New York: Cambridge University Press), Rolandsen, Oystein H. (2017) A History of South Sudan. From Slavery to Independence (Cambridge: Cambridge University Press), Tibi, Bassam (2008) Political Islam, World Politics and Europe (London: Routledge).

[23] برنامج الغذاء العالمي، تقرير حول السودان [بالإنجليزية]:

World Food Program Country Brief on Sudan, October 2019, accessed on 12 December 2019, https://docs.wfp.org/api/documents/WFP-0000110744/download/?_ga=2.46744743.1029170953.1575812000-2079971581.1575812000

[24] البنك الدولي، ملف الدولة، تم الاطلاع في الثاني عشر من ديسمبر 2019: https://databank.worldbank.org/views/reports/reportwidget.aspx?Report_Name=CountryProfile&Id=b450fd57&tbar=y&dd=y&inf=n&zm=n&country=SDN

[25] ميركين (2010)، “معدلات السكان والتوجهات والسياسات في المنطقة العربية” [بالإنجليزية]: Mirkin (2010) ‘Population Levels, Trends and Policies in the Arab Region’

[26] الحريات في العالم 2019، تم الاطلاع في الثاني عشر من ديسمبر 2019: https://freedomhouse.org/report/freedom-world/2019/sudan

[27] روبيرسون، كليف (2017) “سوء تصرف الشرطة: منظور عالمي” [بالإنجليزية]: Roberson, Cliff (2017) Police Misconduct: a Global Perspective (Boca Raton, Florida: CRC Press)

[28] الموسوعة البريطانية (الجنجويد)، بالإنجليزية، تم الاطلاع في الرابع عشر من ديسمبر 2019: https://www.britannica.com/topic/Janjaweed

[29] الجزيرة، الحادي والعشرين من ديسمبر 2018، تم الاطلاع في الرابع عشر من ديسمبر 2019: https://www.aljazeera.com/news/2018/12/protests-rising-prices-spread-sudan-khartoum-181220132130661.html

[30] محمد علي، زينب (2019) “الأطباء السودانيون يقولون إن عشرات الناس اغتصبوا في هجوم الاعتصام” الغارديان [بالإنجليزية]:

Mohamed Ali, Zeinab (2019) ‘Sudanese doctors say dozens of people raped in sit-in attack’, The Guardian, 11 June, accessed 16 December 2019, https://www.theguardian.com/world/2019/jun/11/sudan-troops-protesters-attack-sit-in-rape-khartoum-doctors-report

[31] نصّ الاتفاق: https://www.dabangasudan.org/uploads/media/5d306eb7c2ab1.pdf

[32] بورك، جاسون (2019) “السودان على طريق الديمقراطية مع حل الحزب الحاكم”، الغارديان [بالإنجليزية]:

Burke, Jason (2019) ‘Sudan on path of democracy as ruling party dissolved’, The Guardian, 29 November, accessed 16 December 2019, https://www.theguardian.com/world/2019/nov/29/sudan-dissolves-ex-ruling-party-and-repeals-morality-law


ترجمة: عمرو خيري

Read this post in: English

Exit mobile version