رؤى: من نص المصحف إلى خطابات القرآن، قراءة في خطاب نصر أبو زيد

 حمل هذا المقال كبي دي إف

حالة الركود الفكري والثقافي في حياتنا، تجعل التفكير أشبه بحركة المكان ذاته، تجعلنا نُجمِّد المفكرين، فندرسهم في قوالب ثابتة، لا ندرك حركة التفكير عندهم ولا ندرك انتقالاتهم الفكرية أو تطورهم الذي هو تعبير عن تفاعل بين الفكر والواقع. ونموذج لهذا، دراسة خطاب نصر حامد أبو زيد، وعملية تجميده عند مرحلة كتابه “مفهوم النص” التي يسجنه فيها الدرس “الأكاديمي” العربي. مما يجعلنا لا ندرك الانتقالات الفكرية التي قام بها أبو زيد، ومن بينها الانتقال من تصوره للقرآن كنص وككتاب، إلى تصور القرآن كخطاب أو مجموعة من الخطابات، وما لذلك من تأثير على الدرس التأويلي والوعي الديني في وعينا المعاصر. وفي هذا الإطار؛ فإن هذا المقال يسعى لإلقاء الضوء على التطور الذي شهده فكر أبو زيد وتفاعله مع الواقع ومع الخطابات الأخرى المتباينة.

عاش نصر أبوزيد (١٩٤٣ – ٢٠١٠) خلال دراسته الجامعية بعد الهزيمة الكبرى في ١٩٦٧م، تجربة تحول المعنى الديني، من: “الناس سواسية كأسنان المشط” إلى: “لقد رفعنا بعضكم فوق بعض درجات”، وذلك تبعًا لتحول بوصلة النظام السياسي من: العدالة الاجتماعية إلى الانفتاح الاقتصادي، بين نهايات ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. وكانت تجربته في دراسة مناهج المتكلمين التراثيين وتعاملهم مع القرآن، خلال دراسته عن مفهوم المجاز عند المعتزلة في جدالهم مع خصومهم من الأشاعرة، والتي أتْبعها بدراسته لكيفية تعامل تيار التصوف وروحانيته مع نصوص المصحف، من خلال دراسة عن “فلسفة التأويل عند محيي الدين بن عربي”، حيث وجد أبو زيد، أن النفعية وتوظيف النصوص لتبرير الواقع، التي عايشها في واقعه المعاصر، هي امتداد لممارسات القدماء. حيث تحولت الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية إلى صراعات على ساحات النصوص، بين فِرق المسلمين ومذاهبهم.

فكان السؤال الذي تولد عند أبو زيد هو هل يمكن أن نصل لمعنى موضوعي للنص، لا يخضع للتحيزات الأيديولوجية المُسبقة؟ أو بمعنى آخر هل يمكن الوصول لمعنى حقيقي/صحيح للنص؟ فقام بدراسة علوم القرآن في صورتها الأخيرة التي صاغها الزركشي والسيوطي، للبحث فيها عن مفهوم النص المتداول في علوم اللغة الحديثة وعلوم تحليل النصوص، وهل له وجود أو له بذور مُدرَكة عند القدماء في الثقافة التراثية؟ فمن خلال كتابه (مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن) حاول أبو زيد، ربط الدراسات القرآنية بتحليل النصوص الحديثة، وبعلوم اللغة والبلاغة كما كانت عليه عند المعتزلة وعبد القاهر الجرجاني من القدماء، وكذلك عند محمد عبده والشيخ أمين الخولي من المُحْدثين. وبني كل ذلك على التصورات اللاهوتية الاعتزالية، في علاقة القرآن بالتاريخ من خلال مفهوم خلق القرآن وحدوثه في الزمن، في مقابل التصورات اللاهوتية الأشعرية، والتصورات السلفية التراثية حول قِدم القرآن وعدم ارتباطه بأحداث الزمان والمكان والأشخاص. فكان أبو زيد يدافع عن فهم صحيح في مواجهة أفهام خاطئة، ويدافع عن فهم واضح قائم على العقل وعلى الدليل في مواجهة أفهام مخادعة منافية للعقل وأدلته.ومنذ نهايات الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، انتقل أبو زيد من التعامل النقدي مع جهود القدماء والتراثيين إلى مواجهة نقدية مباشرة مع التيار الديني المعاصر ورسالته الإعلامية وخطابه حول الدين وحول التراث. وفي خضم حالة السجال خلال قضية عدم ترقيته للأستاذية بالجامعة، ومحنة قضية دعوى التفريق بينه وبين زوجته؛ انخرط أبو زيد في عملية نقدية للذات، أدرك خلالها أنه يقوم خلال عملية الرد على تأويلات خصومه بتأويلات سجالية، وأنه، وإن كان يصل إلى نتائج مختلفة عن النتائج التي يصل إليها التيار النقيض، إلا أنها مبنية على مسلمات مشتركة مع خطاب ذلك التيار. وأنه مهما كانت تأويلاته أكثر عقلانية أو أكثر إنسانية وأكثر احتواءً إلا أنها أيضًا تقوم على مبدأ التأويل والتأويل المضاد. فكان نقده لدراساته السابقة، عن رؤيته للمعتزلة، ونقد مفهومهم للعقل، ونقد محدودية تصوراتهم عن الحرية، وكونها مفاهيم محدودة بحدود عصورهم وحدود تجربتهم التاريخية وسقفها المعرفي. وكذلك نقده لدراسته لابن عربي، وكيف أنه وقف عند حدود منطوق كلام ابن عربي وليس بكيفية قوله، ولا بالمسكوت عنه في خطابه. ونقد منهج أستاذه حسن حنفي، المنهج القائم على “التلفيق”، وعلى تعبئة مضامين جديدة في قوالب علم أصول الدين القديمة، مما حول جهود حنفي إلى مجرد إعادة طلاء للبيت القديم، وليست إعادة بناء لعلوم القدماء.وهكذا توصل نصر أبو زيد إلى أنه في سبيل سعيه للوصول لمعنى حقيقي، عقلاني، واضح من آيات المصحف، فإنه يقوم بعملية تأويل قائمة على المسلمات اللاهوتية نفسها للخطاب النقيض، وبرغم أنها تؤدي لنتائج مضادة لنتائج الخطاب التقليدي، إلا أنها في نهاية المطاف تعمل على ترسيخ المسلمات اللاهوتية ذاتها. فمثلًا حينما يعتمد الخطاب النقيض على استخدام النصوص ويتم الرد عليه بنصوص أخرى؛ فبرغم النتائج المختلفة لقراءة النص، فإن هذا النهج –الذي يعتمده كلا التيارين– يؤدي إلى ترسيخ مبدأ “سلطة النص”. وكذلك يرسخ لقاعدة أن كل عمل أو رأي لكي يحظى بالشرعية فلابد أن نبحث له عن نص، يمنح العمل أو الرأي شرعية الوجود. وقد أوضح أبو زيد هذا الملمح في دراسته؛ عن كيف همّش خطاب أبو حامد الغزالي، خطاب ابن رشد داخل الثقافة؛ لأنه رغم منطلقات ونتائج ابن رشد المختلفة عن منطلقات ونتائج خطاب الغزالي، إلا أنه في سجاله معه تسربت مفاهيم الغزالي إلى خطاب ابن رشد. في ذلك الوقت، بدأ أبو زيد يدرك أنه تعرض لما حدث لابن رشد نفسه، وأن منهج الخطاب النقيض تسرب إلى خطابه أثناء حالة السجال التي عاشها خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. وهكذا شهدت الفترة التي أعقبت خروجه إلى أوروبا مراجعته العميقة لمنهجه في التعامل مع القرآن وفهم نصوصه، وأدرك أنه رغم تباين تأويلاته الدينية ونتائجها عن نتائج الخطاب الديني التقليدي بتياراته المختلفة، إلا أنه لا يزال داخل البيت اللاهوتي نفسه وتحت السقف المعرفي ذاته، فكانت عملية إعادة النظر في المفاهيم الأساسية التي ينطلق منها، ومنها بحثه في مفهوم “ما هو القرآن؟” وإعادة النظر في التصورات المرتبطة به في الثقافة، بما فيها إعادة النظر في مفاهيم وتصورات التيار الاعتزالي ذاته عن القرآن. أيضًا كان لمفهوم محمد آركون حول “الظاهرة القرآنية” وتركيزه على عملية تحول القرآن من خطاب شفاهي إلى مصحف مدون، ودور عملية التدوين وشروطها، وتأثيرها على تحديد وتحجيم دلالات القرآن، دورًا رئيسيًا في إدراك أبو زيد أن التعامل مع المصحف باعتباره كتاب أو “نص”، حتى لو استخدمنا كلمة “نص” بالمعنى الحديث لها، ليدرك نصر، أن النظر للمصحف على أنه نص أو على أنه كتاب، لابد وأن يكون له معنى مركزي واحد. إن هذا التصور عن المصحف هو الأساس المعرفي وراء كل عمليات التأويل والتأويل المضاد التي جعلت كل تيار يحاول جذب النص لينطق بمنطلقاته الفكرية، ويجعل تأويلات المخالفين له في الهامش، فينطق المصحف بالشيء ونقيضه؛ على حسب من المتحدث، ومن المستشهد، وبأي نصوص آيات يستشهد، وكيف يستشهد بها.

ومن هنا بدأت رحلته لإعادة النظر في مفهوم القرآن وفي تعريفنا له. وتوصل أبو زيد إلى أنه برغم استبدال مفهوم خلق القرآن عند المعتزلة بمفهوم قدم القرآن عند الأشاعرة، إلا أننا نظل في أسر تصورات القدماء، التي هي بنت عصرها. فالمعتزلة والأشاعرة، رغم اختلافهم، فإنهم ينتمون إلى البيت المعرفي نفسه، محدود بالسقف المعرفي للزمن الذي ينتمون إليه، وعلينا أن نخرج من أسر البيت المعرفي القديم ونتجاوز سقفه المعرفي المحدود، ولا نكتفي بمجرد الانتقال من غرفة في بيت التراث إلى غرفة أخرى في البيت نفسه، فنحن لا نزال تحت السقف نفسه وفي المدينة ذاتها. من هنا كانت رحلة انتقال أبو زيد من تعريف القرآن كـ “نص” إلى تعريف القرآن كـ “خطاب” أو كخطابات.

-2-

رغم أن كلمة “نص” كانت تُستخدم قديمًا بدلالة مختلفة عن استخدامنا لها الآن، فعند القدماء كانت تشير إلى درجة من درجات وضوح المعنى وغموضه، على مقياس الوضوح والغموض لدلالات ومعاني التركيب اللغوي. حيث كان يمكن تقسيم الدرجات بحسب تدرجها من الوضوح الكامل إلى الغموض الكامل هكذا: (النص، الواضح، المُؤول، المُشكل، المتشابه) فكانت درجة النص هي: الواضح وضوحا بيِّنا، فكل متحدث باللغة، يستطيع أن يدرك المعنى الظاهري للكلام بمجرد معرفته للغة. ولذلك كان القدماء يقولون “لا اجتهاد مع النص” كانوا يعنون به الواضح دلالته عند الجميع، وضوح أقرب للبديهيات اللغوية. وكذلك كانوا يقولون: “النصوص عزيزة” أي أن وجودها نادر في المصحف. لكن كلمة “نص” أخذت أبعادًا أوسع في عصورنا الحديثة، حيث أصبحت تشير إلى نسق لغوي كلي، سواء كبر أو صغر حجم النسق، أو اتسمت فيه الدلالات بالوضوح أو الغموض.

وبرغم أن نظريات الدرس اللغوي والبلاغي عند القدماء، في غالبها، كانت تهتم بدراسة التراكيب اللغوية والبلاغية على مستوى الجملة ومستوى العبارة، ونحن في عصورنا الحديثة، نتناول التراكيب في أنساق أوسع من الجملة ومن العبارة، حيث يمكننا الأن التعامل مع عمل أدبي ككل أو نتعامل مع كل أعمال أديب ما، كنسق كلي واحد، رغم تباعدها وانفصال الوحدات عن بعضها، فإنه يجمعها وحدة المؤلف في نسق. ورغم أن نصر أبو زيد استخدم كلمة نص بدلالتها الحديثة في علوم اللغة وفي تحليل النصوص، وساهم في اتساع نطاق الدلالة من دراسة العلامات اللغوية إلى دراسة الدلالة اللغوية في علاقتها بكل أنساق العلامات الأوسع من الدلالات اللغوية؛ إلى العلامات بالمعنى “السيميوطيقي/ السيميولوجي”، أي في إطار كل ما يصدره الإنسان من علامات دالة؛ فالطقوس لغة وعلامات، الأزياء علامات، إشارات المرور في الشارع لغة وعلامات دالة. ولكن برغم كل هذا الاتساع، فإن التعامل مع المصحف كنص، بالمعنى الحديث لكلمة نص، يولِّد مجموعة من المشكلات الفكرية واللاهوتية.

فالنص: بنية مستقلة، وتكوين قائم بذاته، له عالمه الخاص. ومفهوم النص يستدعي مفهوم “المؤلف”، الذي يقوم بعملية بناء النص، ويمكنه أن يحذف ويراجع ويضيف، ويجعل من معاني النص معنى مركزي، فيكون هناك مقصد للمؤلف، يسعى لإيصالها عبر طريقة بناء وتركيب النص. ورغم أن المؤلف يكون في ذهنه تصور عن قارئ ما لنصه، عبر تصوره لقارئ ضمني. وعملية “التناص” التي تتداخل فيها النصوص مع بعضها الآخر، وتربطها بما هو خارجها. وللنص سياق يظهر فيه، وتتأثر به معاني النص. وبرغم كل ذلك؛ فإن النص كيان مستقل، قائم بذاته، يحركه مقصد المؤلف. والقدماء كانوا على وعي بذلك فلم يقل أحد أن القرآن أو المصحف من تأليف الله سبحانه عز وجل، بل تحدثوا أن الله “مُتكلم بالقرآن”، وأن القرآن “كلام الله”. رغم ذلك فقد ظل المفهوم والتصور الرابض تحت سطح الممارسات التراثية التأويلية المختلفة قائمة على تصور المصحف كنص كتاب.

التعامل مع المصحف ككتاب تتولد عنه ظاهرة، قد تناولتها في مؤلف سابق لي وأسميتها “توتر”.[1] فالفهم السائد عن الكتاب أن له مؤلف، وأن هناك مقصد أو مقاصد للمؤلف يسعى إلى إيصالها من خلال الكتاب؛ مما يجعلنا نبحث عن مركز للدلالة وعن بؤرة المعني في الكتاب أو في النص، وعن معاني ودلالات هامشية في النص. فحين تتعامل مع المصحف، ستجد تصور للذات الإلهية يدور حول التنزيه الكامل لله، عن أي مشابهة للبشر. وستجد أيضًا بالمصحف التشبيه والتجسيم الكامل للذات الإلهية في مواضع أخرى، فأيها هو المعنى المركزي، وأيها هو مقصد المتكلم، التنزيه أم التشبيه؟ فيسعى علم الكلام والفلسفة لحل هذا الإشكال عبر ثنائية (المحكم والمتشابه)، أو بلغة عصرنا الواضح والغامض.

وفي مجال توجيهات السلوك التي اهتم بها الفقه وتناولها الفقهاء، ستجد في كتاب المصحف أن للخمر منافع وأضرار وأضرارها أكثر من منافعها. وستجد توجيه بعدم الاقتراب سكارى للصلاة. وستجد أن الخمر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه. فأيهم مقصد المتكلم؟ فيحاول الفقيه أن يرفع هذا التوتر بمقولات “الناسخ والمنسوخ”، وذلك عبر السعي لتحديد ما نزل متأخر من القرآن؛ ليكون هو آخر توجيه سلوكي، الذي من شأنه تغيير التوجيه السلوكي الذي جاءت به الآيات التي نزلت في وقت مبكر. ومن هنا تظهر أهمية مفاهيم مثل “العام والخاص” لتعيين ما يكون معناه عام لكل المسلمين في كل زمان ومكان، وما هو خاص محدود في واقعة أو في شخص. وكذلك تحديد ما هو “المطلق والمقيد”…الخ. وسيجد اللغوي إشارات في كتاب المصحف تَنسبُ قدرة الإرادة لجماد، كالجدار الذي أراد أن ينقض. فيحاول اللغوي والبلاغي رفع التوتر عبر مقولتي “الحقيقة والمجاز”. وتحاولها التيارات الصوفية والمذاهب الشيعية: بمقولتي “الظاهر والباطن”. أو يحاولها الفقهاء من خلال تحديد مقاصد كلية للشريعة لتكون مبادئ هادية لهم في اختيار وترجيح المعاني المركزية والهامشية في النص.

معظم هذه الجهود سواء في علم الكلام أو الفقه وأصوله أو التصوف. تقوم تقريبًا على التعامل مع المصحف كنص كتاب، له متكلم به هو الله سبحانه وتعالى، وللمتكلم قصد من كلامه، وكل جهودنا في الفهم تسعى للوصول لذلك القصد. فبؤرة التركيز خلف هذه الجهود، هي على المتكلم وعلى قصده من كلامه، وهذا القصد يُتصور أنه يجب أن يكون مقصد واحد مركزي صحيح والمعاني الأخرى هي مقاصد خاطئة أو معاني مضللة وهامشية. فتكونت في ثقافة المسلمين نظرية في الفهم وفي التأويل وفي التفسير، تشربت بها علوم الكلام والفلسفة واللغة والبلاغة، وتأثرت بها أصول الفقه إلى علوم، كما طال تأثيرها مدارس التصوف.

فعلماء الكلام والفلاسفة المسلمون سيقفون عند الكلام الإلهي، هل الكلام صفة ذات، قديمة قدم الذات الإلهية، أم هو صفة من صفات الفعل؟ فلو الكلام صفة قديمة، إذا فاللغة أصلها إلهي وقديم، ويصبح القرآن –كونه كلام لله– قديم قدم الذات الإلهية. وإذ أخذ البعض مثل المعتزلة أن الكلام صفة فعل، أي أنه فعل بعد خلق الله للعالم، مستندين في ذلك إلى أن أفعال الله كلها حكمة، وتصور أن الله يكلم العدم، هو فعل غير حكيم، ناقص، والله منزه عن النقص، لذلك فكلام الله فعل بعد خلق الله للموجودات. فتصبح اللغة حسب تصوراتهم مخلوقة وأنها مواضعة واتفاق بين البشر، ويصبح القرآن مخلوق وليس قديم، لأنه صفة فعل وليس صفة ذات أزلية. فيأتي الأشاعرة ويحاولون رفع التوتر بين الجانبين، بالتفرقة في الكلام بين المعاني وبين الألفاظ. ليقولون أن المعاني قديمة قدم الذات، لكن خروجها في ألفاظ عربية، يجعلها مخلوقة. ويفرقون بين اللغة الإلهية القديمة وبين مواضعة البشر بعد ذلك في لغات أخرى كالعربية والإنجليزية. ويصبح القرآن قديم كمعاني ومخلوق كألفاظ باللغة العربية. هذه الاتجاهات الثلاثة رغم الاختلافات الظاهرة بينها، فهي حجرات في بيت، وتحت سقف معرفي واحد يجمعها. فبؤرة تركيزها هو الوصول إلى قصدية المتكلم ودلالة كلامه، حتى مع الاختلاف بينها حول كيفية الوصول إلى قصدية المتكلم، وهل هذه القصدية سابقة على الكلام أم لا؟ ورغم الاختلاف بينهم حول هدف الكلام الإلهي، وهل يهدف إلى سعادة الإنسان وإلى خيره أساسًا، أم هدفه هو تعريف البشر بالله وبكيفية طاعته وبطريق عبادته اتقاءً لعذاب ناره وسعيًا لدخول جنة نعيمه؟ السقف المعرفي المشترك هنا رغم كل هذه الاختلافات، أن نظرية التأويل التراثية القائمة على مفهوم النص، يتم بناؤها على المجاز اللغوي، والمجاز اللغوي أداة قاصرة، فهو يرتبط في الغالب بالمجاز على مستوى الجملة اللغوية، ولذلك يتم التعامل مع آيات المصحف بشكل منفصل غالبًا من سورة الفاتحة إلى سورة الناس. وكذلك تم حصر المجاز في آيات التوجيهات السلوكية التي يتناولها الفقه. ولم ينسحب المجاز عندهم على آيات “المعتقدات”، أو إلى آيات القصص، أو الأخلاق.

ورغم إدراك علوم الفقه للتفاعل بين كلام القرآن وبين الواقع، من خلال علوم المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، ومرويات أسباب النزول، ثم من خلال تصورات كلية عن مقاصد للشريعة، فرغم ذلك الإدراك فإن جهود الفقهاء تسعى إلى طرح “معنى واحد ثابت” يسري على المسلمين في كل زمان ومكان، وإن اختلف هذا المعنى من مذهب إلى آخر. فإن هذا المعنى الواحد يتم ترسيخه من قِبل السلطات الحاكمة، عبر اختيارها لمعنى أو رأي فقهي واحد، وتسييده بقوة السلطان، ولا يسود بقوة وسلطة المعرفة وآلياتها الذاتية.

ورغم خروج تيارات التصوف من أسر المجاز اللغوي وضيقه، إلى رحابة الرمز في تعاملاتها مع المصحف، وتصورها أن الكون كتاب منثور والقرآن كتاب مرقوم، وأيضًا إقامتها علاقة الله مع الإنسان ومع العالم على الحب. وليس على مجرد الطاعة والجبر أو الرغبة في الجنة واتقاءً للنار. رغم كل ذلك فقد استغرقت التأويلات الصوفية والعرفانية الشيعية، في عوالم من الرمز لم تتقيد بمنطوق الكلام ولا مواضع اللغة ولا تاريخية الثقافة في كثير من جهودها.

هذه الجهود التي قامت على الطبيعة النصية وقامت على التركيز على المتكلم وعلى مقصده، ولم تول الرسالة ذاتها ومقاصد الكلام التي قد تكون أوسع من مقصدية المتكلم، ساهمت في تفتيت المعنى، عبر تفتيت الوحي وتفتيت القرآن وتفتيت المصحف والتعامل معه بطريقة جزئية. ليركز المتكلمين والفلاسفة، في سعيهم للوقوف على المعاني اللاهوتية، على نوع وعدد معين من آيات المصحف، منفصلة عن بقية الآيات. ويركز الفقهاء جهودهم على آيات التوجيهات السلوكية “التشريعية” بمعزل عن بقية الآيات. ويركز المتصوفة على الآيات ذات البعد الأخلاقي والروحي. وفي ظل هذا التفتيت والتجزء والعزل، تغيب الرؤية القرآنية الكلية للعالم. فكيف نفهم آيات المصحف وتمييز ما هو توجيهي (تشريعي) منها في ضوء اللاهوتي والأخلاقي والروحي، في سياق ثقافي، من تفاعل الوحي بما هو خارجه. من هنا عجز نظرية التأويل التي قامت على البنية النصية المتجزئة، التي تضع المتكلم ومقصده في بؤرتها، فينتج عن ذلك التأويل والتأويل المضاد، ونحتاج أن نزرع نظرية جديدة لنا في التأويل تستوعب القديم وتقتله فهمًا، وتبدأ بإعادة تعريف القرآن عبر نقد التصورات السائدة.

-3-

أدرك نصر أبو زيد ضيق عجزنا الفكري حين ننظر للقرآن على أنه نص كتاب بين دفتي مصحف، حتى ولو استخدامنا كلمة نص بمعناها الحديث في علوم تحليل النصوص وتحليل الخطاب –المفهوم الذي استخدمه ودافع هو عنه– ليبني على جهود محمد أركون (١٩٢٨ – ٢٠١٠) في دراسته للظاهرة القرآنية. فسعى ليعيد النظر في تعريف القرآن، تعريف جديد يخرج به من مفهوم قِدم القرآن عند التراثيين وكذلك يخرج به عن ضيق مفهوم خلق القرآن الذي قال به المعتزلة. لينتقل إلى النظر إلى المصحف ليس باعتباره نصًا، بل كمجموعة من النصوص. ثم وجد أبو زيد أن القرآن في تعريفه الذي يفسر خصائصه؛ هو أقرب لمفهومنا المعاصر للخطاب منه لمفهوم النص. حيث أن الخطاب بنية تحاورية ونسق يقوم على التفاعل تأثيرًا وتأثرًا بين أطراف الخطاب، حيث يقوم المُخاطِب والمُخاطَب في تشكيل الخطاب. ويحضر سياق كل منهما في جوانب الخطاب بجوانب للسياق متعددة. ومما يميز الخطاب هو أن حضور المتكلم يكون عبر تعدد أصوات داخل بنية سردية وليس صوت واحد. كذا يعمل تحليل الخطاب على دراسة نمط الخطاب أو فحواه، ويتم دراسة تأثير الخطاب على المتلقين وردود أفعالهم على الخطاب؛ فتعرض نصر أبوزيد لتجلى البنية الخطابية في القرآن وسعى لدراسة مدى إدراك أسلافنا –أو عدم إدراكهم– للجوانب الخطابية من القرآن؛ ليصل إلى أن بنية القرآن هي أقرب إلي أن تكون مجموعة من الخطابات.

رغم أن القرآن كله كلام الله حسب تصورات المسلمين، وأن الله هو المتكلم بالقرآن. فهناك أصوات متعددة في القرآن، فسنجد الصوت الإلهي المقدس “إني أنا الله رب العالمين”، وسنجد القرآن يصور صوت النبي “إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم الله بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين”، وأصوات أهل قريش “قال الذين كفروا للذين آمنوا: لو كان خيرًا ما سبقونا إليه”، وأصوات أهل الكتاب “وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون”. كذلك سنجد أصوات الأنبياء السابقين وأصوات أهلهم. سنجد الجدل بين النبي وأزواجه، وبينه وبين قومه، وبينه وبين أهل الكتاب. سنجد القرآن يخاطب النبي كمتلقي أول، ويخاطب البشر كمتلقين من خلال خطاب النبي، وسنجد القرآن يخاطب الناس مباشرةً أو يخاطب المؤمنين مباشرةً. سنجد في القرآن رد مباشر على أسئلة من البشر: “يسألونك عن الروح”، “يسألونك عن الأنفال”، ويأمر النبي “قل”. والقصص بالقرآن هو أبنية سردية موظفة لإيصال معنى ديني، للمعاصرين للخطابات القرآنية، وليست مجرد سرد لتاريخ أقوام سابقين. وهذا يفسّر التغيرات في بعض تفاصيل القصص في مواضع مختلفة من سور المصحف.

كان هناك إدراك في بعض جوانب معارف التراثيين القدماء للطبيعة الخطابية للوحي وللقرآن: فالفقه كان يحاول رصد ذلك، بدراسة: عموم اللفظ وخصوص السبب، وما هو عام وخاص، وما هو مطلق ومقيد، وما هو ناسخ ومنسوخ، وما هو مكي وما هو مدني. فكل هذه العلوم من علوم القرآن هي معارف تدرس تكوين الخطابات القرآنية، وهي تدرك الطبيعة الخطابية التحاورية للقرآن. لكن علوم القرآن التي تدرس بنية القرآن؛ هي علوم تتبنى النظر للقرآن كنص وتعتمد ترتيب المصحف الحالي كوقف من الله. والعلوم التي تهتم بدراسة المعنى في القرآن عبر دراسة المجاز والاستعارة. فهي تقوم أيضًا على تصور القرآن نص مصحف؛ ولذلك فالتفسير في غالبه يتبنى البنية النصية للمصحف فيفسره تفسير خطي، من الفاتحة إلى نهاية المصحف، ويكون تفسير البيان اللغوي والبلاغي حسب ترتيب التلاوة الحالي، فلا يدرك التفسير التطور الدلالي للغة القرآنية، وما يضيفه الوحي من دلالات لغوية إلى كلمات المصحف عبر مراحل تاريخ سنوات الوحي.

إن التعامل مع المصحف على إنه كتاب أو نص، جعل كل جهود فهمه عبر العصور تسعى إلى مقصد مُرسل القرآن، وجعلت هذا المقصد يجب أن يكون واحدًا، وشاملًا، وأبديًا، لكل زمان ومكان. مما جعل المسلمين يبحثون دائمًا في المصحف عن حلول لكل مشكلات حياتهم، وليس فقط الهداية الدينية. الظاهرة الأخرى التي تولدت عن ذلك هي اختيار معنى واحد لجعله مقصد مُرسل القرآن، ويتم تهميش المقاصد الأخرى من خلال ثنائيات عديدة عبر التاريخ، بأن يكون هناك مقصد ناسخ وآخر منسوخ، مُطلَق ومقيد، خاص وعام في مجال الفقه. ظاهر وباطن في مجالي التصوف والمنظومات الفكرية الشيعية. حقيقة ومجاز في مجال بلاغة المصحف. بحيث يكون جانب من كل هذه الثنائيات هو المقصد والآخر يتم تهميشه. وهذا ما حدث من خلال التأويل والتأويل المضاد، وما زال. وذلك بسبب الطبيعة النصية للمصحف. حينما يتم التعامل مع المصحف كمجموعة من الخطابات، فكل خطاب منها له وقت وله زمن وله سياق، وله مُخاطبين، وليس معنى مطلق وشامل وأبدي. لكن الأمر يتطلب جهودًا كبيرة للكشف عن بنية الخطابات في المصحف، وهي الجهود التي لم نبدأ فيها بعد.

إن ضعف ثمار الإصلاح الديني بعد قرن ونصف من الجهود، يعود إلى أننا ركزنا في جهودنا على التجديد في المسائل العملية وفي الفروع، ولم نتعرض لماكينة التفكير الدينية، ذاتها وفي الأسس التي تقوم عليها من تصورات تجمدت عند زمن بعيد، وأصبحت هذه التصورات عقائد، وأصبحت معلوم من الدين بالضرورة، وأصبحت ثوابت للدين، ولا يمكن إعادة النظر فيها. ومن يفعل فقد جدف في العقائد وهدم الثوابت وأنكر المعلوم من الدين بالضرورة، في حين أن كل هذه “الثوابت” كانت مجرد تصورات بشرية ضمن تصورات أخرى وكانت مجرد إجابة ضمن إجابات أخرى، لكنها سادت واستمرت لعوامل اجتماعية وسياسية تاريخية، فأصبحت هي الدين، أو أصبحت هي “صحيح الدين”؛ لذلك لن يفيد “التجديد في الفكري الديني” عبر مجرد إعادة تعبئة القديم في زجاجات جديدة، كما نفعل منذ قرن ونصف.

كان لإدارك نصر أبو زيد لهذه الحقيقة عامل رئيس في اتخاذ قراره بالبدء في رحلة إعادة تعريف القرآن، التي بدأت منذ نوفمبر عام ٢٠٠٠ في محاضرته، عند جلوسه على كرسي الحريات في جامعة لايدن، فتناول القرآن كعملية تواصل رأسي بين الله والإنسان. وفي احتفالية مئوية الكواكبي في سوريا حيث تناول في محاضرته، إشكالية تأويل القرآن قديمًا وحديثًا، ليتناول الجانب الأفقي من تعامل البشر مع القرآن عبر الفهم والتفسير والتأويل من قدماء ومحدثين. ليقدم في محاضرته لاعتلائه كرسي ابن رشد في كلية الإنسانيات بجامعة أوترخت عام ٢٠٠٤ دعوة إلى السعي نحو منهج إسلامي جديد في التأويل. وسعى في السنوات التالية إلى بناء هذا المنهج الجديد، وقدم عناصر له في محاضرات ومناسبات مختلفة.

في السنوات الخمس الأخيرة من حياته، كان أبو زيد مشغولًا بالبحث عن سؤال؛ هل هناك رؤية مترابطة للعالم خلف الأنساق القرآنية؟ فحاول أن يبحث في تراث المسلمين الفكري عن بذور اهتمام ببناء رؤية للعالم متكاملة للأنساق القرآنية. وقدم في محاضرته في افتتاح مؤتمر القرآن في سياقاته التاريخية، الذي عقد بجامعة نوتردام بالولايات المتحدة الأمريكية في إبريل ٢٠٠٩ عناصر هذه الرؤية في مداخلته بالمؤتمر “قصتي مع القرآن”. وأشار إلى البذور الموجودة في جهود القدماء للوصول إلى مقاصد كلية للشريعة. وكذا الجذور الموجودة في خطاب ابن رشد والتي يمكن الانتباه لها مع دراسة كتبه بشكل مترابط، مع الوضع في الاعتبار السياقات الزمنية التي صدرت فيها هذه الكتب، وهي: “فصل المقال” و “مناهج الأدلة” و “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”.

كان نصر أبوزيد في العقد الأول من القرن الحالي، وكما كان يردد، “مازال في مطبخ فكره” ولم يقدم وجبة متكاملة بعد. لكنه شاركنا بعض أطروحاته وأفكاره خلال محاضراته، وكان قد بدأ في العمل على كتاب ليكون مدخلًا يجمع فيه الأسس الفكرية التي توصل إليها. فضلًا عن ذلك كان قد بدأ في تأويله لسورة الفاتحة باللغة الإنجليزية. وهذه الجهود مازالت تحتاج إلى الجمع وإلى الترجمة للعربية ورصدها والعمل عليها. وذلك يشمل مرحلة إعادة تعريفه القرآن من نص إلى خطاب ثم إلى خطابات، أو نتائج بحثه عن رؤية العالم وراء ساحات الخطابات القرآنية؛ سعيًا لأن تستفيد ثقافتنا من جهود السابقين، وتقوم بالبناء عليها عبراستيعابها والتعامل معها بشكل نقدي، فنصعد على أكتاف هذه الجهود، فنرى أبعد مما رأت، وهذه دعوة نصر أبوزيد لنا فهل من مُجيب؟[2]

[1] عمر، جمال (٢٠١٧). مقدمة عن توتر القرآن. دار الثقافة الجديدة. القاهرة.

[2] رحلة انتقال نصر أبو زيد من النظر للمصحف على أنه “نص”؛ بالمعنى الحديث لكلمة نص في الدرس اللغوي المعاصر، إلى تصوره كخطابات، بدلالة ومفهوم “الخطاب” المستخدمة في علوم تحليل الخطاب وفي علم العلامات:”السيميولوجيا/ السيميوطيقا”. قد مرت بمراحل، وهي عملية تطور طبيعي من داخل خطابه. ويمكن رصد بذور لها في دراساته التطبيقية على نصوص من المصحف، في دراسته من منتصف التسعينيات، سواء في “العالم بوصفه علامة” أو في “الرؤيا في النص السردي العربي” أو في دراساته التطبيقية في نهاية التسعينيات حول الآيات والنصوص المتعلقة بالمرأة وحقوقها في دراسة سياقية.

Read this post in: English

Exit mobile version