الدين والهوية والعرق: سعي الأقليات الدينية التونسية للمواطنة الكاملة

حمل هذا المقال كبي دي إف

خلاصة

على الرغم من أن تونس عادةً ما يتم تقديمها، في سياق المقارنة مع البلدان الأخرى في المنطقة، باعتبارها بلدًا متجانس دينيًا وعرقيًا؛ إلا أن الأقليات التونسية خضعت لزمن طويل للإخفاء و/أو الاستيعاب في الهوية العربية الإسلامية السائدة، وبعد تخلص تلك الأقليات من وضعية أهل الذمة في ظل الإمبراطوريات الإسلامية، حولتها القوى الغربية أثناء الاستعمار إلى وسيلة. والآن بعد أكثر من ستين عامًا على الاستقلال وتسع سنوات بعد الثورة؛ هل لا يزال سعي الأقليات الدينية التونسية للحصول على حقوق المواطنة الكاملة مستمرًا؟ للإجابة على هذا السؤال؛ سيقدم المقال عرضًا عامًا لتاريخ الأقليات الدينية باعتباره متشابكًا مع قضايا الهوية والعرق، وسيتناول الاعتراف القانوني قبل وبعد الثورة، واهتمت الورقة بالتمثيل المجتمعي من خلال مقابلات مستهدفة مع أعضاء في ثلاث طوائف. استخدم البحث بشكل أساسي إطارًا نظريًا لحقوق الأقليات، ويخلُص إلى أنه برغم اكتساب الأقليات الدينية لمجموعة معينة من الحقوق؛ إلا أنها لا تزال تفتقر إلى حد ما لحقوق المواطنة الكاملة، فضلًا عن معاناتها من الوصم الاجتماعي.

مقدمة

على الرغم من الصعوبات الاقتصادية وبعض العقبات المتعلقة بتطبيق العدالة الانتقالية، فإنه من المسلم به أن الثورة التونسية التي اندلعت في عام 2011 قد نجحت في تحويل البلاد إلى ديمقراطية فاعلة، أدت إلى تحسين بعض الضمانات القانونية وتعزيز شعور عام باحترام حقوق الإنسان. ويمكن للمرء أن يذكر، على سبيل المثال، دخول القانون الأساسي رقم 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضد المرأة حيز التنفيذ، وكذلك القانون الأساسي رقم 50 لسنة 2018 المتعلّق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري. ويُشكّل الأخير معلمًا رئيسيًا للأقلية العرقية السوداء في تونس، التي كانت –بجانب الأقليات الأخرى– في الخطوط الأمامية لمطالب التغيير منذ 2011. ومع ذلك، فإن سعي الأقليات في البلاد للحصول على حقوق المواطنة الكاملة لم يُكلل بالنجاح؛ فهو بالأحرى جهدًا متواصلًا لا يشمل فقط التغيير على المستوى التشريعي، بل أولًا وقبل أي شيء على المستوى المجتمعي، في سبيل الحقوق التي دافع عنها المعنيون بشكل مباشر.

يبلغ تعداد سكان تونس نحو أحد عشر مليونًا وسبعمائة ألف نسمة،[1] وعادةً ما يتم تناول سكان تونس باعتبارهم متجانسين دينيًا وعرقيًا، وذلك بالمقارنة مع دول أخرى في المنطقة. وتقوم الحكومة التونسية بالترويج لهذه الصورة، منذ الاستقلال في عام 1956.[2] ولأن الحكومة التونسية لا تقوم بجمع بيانات حول تعداد سكانها مصنّفةً حسب الدين و/أو العرق؛ فإن الأرقام الواردة أدناه هي تقديرات تستند إلى منظمات غير حكومية ومنظمات مجتمع مدني وأبحاث مستقلة، بما فيها أبحاث المؤلفة.[3][4]

في الوقت الذي بدأ فيه التنوع طويل الأمد في البلاد يحظى بالاعتراف خلال السنوات الأخيرة، كانت العملية الطويلة للإخفاء والاستيعاب في الهوية العربية الإسلامية السائدة؛ قد وضعت الأقليات والسكان الأصليين في البلاد في وضعية “المواطنين الثانويين” أو “ضيوف الشرف”.[5]

ستقوم هذه الورقة بتحليل تطور ضمانات الحريات الدينية منذ ثورة 2011، وذلك من خلال التركيز على ثلاث مجموعات تواجه تحديات مختلفة، ومن ثم تُظهر كيف يمكن تضافر القبول والتسامح و/أو الرفض مع مفاهيم أخرى مثل العرق والهوية والردة. وفي هذا الإطار، سنقوم بالتركيز على الأقليات الدينية التالية: البهائيون التونسيون، والتونسيون الذين اعتنقوا المسيحية، والمهاجرين المسيحيين من جنوب الصحراء الكبرى.

يستند المقال إلى إطار نظري لحقوق الأقليات، وكذلك يحيل إلى مفاهيم مستعارة من حقل الدراسات الاجتماعية والثقافية حول المواطنة والهوية لمجموعة من المؤلفين المتنوعين على المستوى النظري والجغرافي واللغوي. يتضمن المقال بحثًا مكتبيًا للنصوص القانونية الوطنية حول حرية الدين أو المعتقد والأقليات الدينية،[6] ومراجعة لوسائل الإعلام المحلية، بالإضافة إلى سلسلة من المقابلات مع أعضاء الطوائف موضع البحث. أُجريت خمس مقابلات عبر الإنترنت، بين أبريل ومايو 2020؛ وذلك بسبب القيود المفروضة نتيجة تفشي جائحة كوفيد-19.[7] يبدأ المقال بإلقاء نظرة عامة على تاريخ الأقليات الدينية في تونس، ثم ينتقل إلى الضمانات القانونية التي تحققت (أو لم تتحقق) في أعقاب الثورة. الأقسام التالية تتناول بشكل موجز قضية العرق وكذلك الحقائق المعيشية للمجموعات المعنية، وذلك قبل أن يشرع المقال في سرد استنتاجاته.

نظرة تاريخية عامة على الأقليات الدينية في تونس وقضايا الهوية

تاريخيًا، شكّل اليهود والمسيحيون الأقليتان الدينيتان الرئيسيتان في تونس. وعلى الرغم من أن الطائفة اليهودية التونسية تُعرف بأنها أحد أقدم الطوائف اليهودية في العالم، إلا أن عدد المنتمين لها انخفض بشكل هائل على مدار القرن المنصرم نتيجة عدة عوامل. وكما هو الحال مع الطوائف اليهودية في الدول الأخرى في شمال أفريقيا؛ يمكن العثور على أسباب هذا الانخفاض الكبير في تأثير النازية والفاشية على الدول المستعمرة من أوروبا وقيام دولة إسرائيل. حيث لم يؤد الاحتلال النازي لشمال فرنسا في 1940، وما أعقبه من استعادة لنظام فيشي في جنوب فرنسا، والاحتلال الإيطالي الألماني لتونس في 1942-1943، إلى جلب القوانين التمييزية فحسب، بل أدى أيضًا إلى انتشار المشاعر المعادية لليهود. مع ذلك، ينبغي القول بأن التأثير في تونس وفي شمال أفريقيا بشكل عام لم يكن مأساويًا بالقدر نفسه الذي شهدته أوروبا.[8]

على الرغم من ذلك، تزايدت مشاعر العداء لليهود في السنوات التالية، مع قيام دولة إسرائيل وما تلاها من الحروب العربية الإسرائيلية. على الجانب الآخر، فإن الحبيب بورقيبة –وهو رمز رئيسي لاستقلال تونس وأول رئيس لها (1956-1987) ومعروف بمواقفه العلمانية وعدم إقحام المؤسسات الإسلامية في السياسة الداخلية– كان واعيًا لأهمية الفصل بين إدانة الصهيونية وبين الأقلية اليهودية في البلاد؛ إلا أنه لم يتورع عن استخدام الإسلام في خطابه السياسي المناهض للاستعمار وحملات القومية التي ساهمت في استبعاده.[9]

كنتيجة لكل هذه العوامل؛ هاجر العديد من اليهود التونسيين بعد الاستقلال. كان يُعتقد في نهاية القرن التاسع عشر أن عدد اليهود بلغ ما يقارب عشرين ألفًا (وهو الرقم الذي ازداد أثناء النصف الأول من القرن العشرين، حيث ذكرت بعض التقارير أن عدد اليهود بلغ مئة ألف بعد الحرب العالمية الثانية).[10] في الوقت الحاضر، لم يتبق سوى ما بين ألف وخمسمائة وثلاثة آلاف يهودي تونسي، يعيش غالبيتهم في جزيرة جربة، وبعض المناطق في العاصمة تونس.[11]

بالنسبة للمسيحيين، فوفقًا لمصادر مختلفة، يوجد ما يقرب من خمسة وعشرين ألف مسيحي في تونس، غالبيتهم من الكاثوليك.[12] وهؤلاء يتألفون بشكل رئيسي من ثلاث مجموعات: أجانب يعيشون في تونس (معظمهم من دول جنوب الصحراء الكبرى وأوروبا)، والتونسيين المنحدرين من أصول أوروبية والذين استقروا في البلاد خلال فترات مختلفة (غالبيتهم من إيطاليا وفرنسا ومالطا)، بالإضافة إلى التونسيين من أصول مسلمة الذين اعتنقوا المسيحية. على الرغم من عدم وجود إحصاءات رسمية، فإنه يُعتقد أن الأجانب يمثلون أكثر من تسعين بالمئة من هذا الرقم. وفقًا لجمعية التلاقي –التي أسسها مجموعة من الشباب المسيحي في 2016– فإن الرقم التقريبي للمسيحيين التونسيين يبلغ ستة آلاف.[13] هذا التصنيف تم استنادًا إلى أساس قومي/عرقي، ولا يعكس بالضرورة هويات طائفية مختلفة. في الواقع، فإن الكاثوليك في البلاد ممثلون في المجموعات الفرعية الثلاث المذكورة آنفًا، وكذلك الحال مع الطوائف الأصغر، مثل البروتستانت والأرثوذوكس. وعلى الرغم من أن هذه الكنائس قد تم تشييدها خلال البعثات الفرنسية والإيطالية في القرون السابقة، فإن أغلبية المسيحيين الممارسين للشعائر الدينية حاليًا في تونس هم من المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى.[14]

على الرغم من أن وجود المسيحية يعود للقرن الأول الميلادي؛ إلا أنه يُعتقد أن الكنيسة الكاثوليكية دخلت تونس الحديثة رسميًا في عام 1841 تحت إشراف مباشر من الفاتيكان.[15] في أعقاب فرض الحماية الفرنسية؛ تم تأسيس أبرشية قرطاج في عام 1884، وهكذا أصبح الوجود الكاثوليكي أكثر قوة. وبعد الاستقلال، في عام 1964، قام الفاتيكان بإبرام اتفاقية مع الجمهورية التونسية تسمى “مودوس فيفندي” بهدف تنظيم العلاقات بين الدولة والكنيسة. ورغم ما توفره هذه الاتفاقية من وسائل متعددة للحماية، إلا أنها لا ترحب بالتعبير العلني عن الإيمان، مثل رنين الأجراس والمسيرات وجميع أعمال التبشير. حاليًا يوجد في تونس اثني عشرة كنيسة كاثوليكية في تونس، ودير واحد، وغيرها من الخدمات ذات الصلة (المدارس، المكتبات.. الخ).

الطوائف الأخرى ممثلة غالبًا في: الكنيسة الإنجيلية الإصلاحية (تأسست في عام 1882؛ وهي في الأصل تجمُّع للمتحدثين بالفرنسية، وتضم ما بين 15 إلى 20 جنسية موزعين بين ثلاث مدن، بما فيها تونس العاصمة)،[16] وكنيسة القديس جورج الأنجليكانية في الحفصية بتونس (تأسست في عام 1901)[17]، والكنيسة الأرثوذكسية، ممثلة في الكنيستين اليونانية والروسية (تأسستا في الأعوام 1862 و1956 على التوالي). من الصعوبة بمكان التحقق من دقة الأرقام بشأن هذه الطوائف؛ لأن الدولة التونسية لا تعترف بأية كنيسة أخرى سوى الكنيسة الكاثوليكية (بغض النظر عن الاعتراف بوجود الأجانب الذين يمارسون تلك الشعائر الدينية). على الرغم من أن بعض المصادر ذكرت أنه تم الاعتراف رسميًا بالكنيسة البروتستانتية في عام 1933 من خلال مرسوم بيكليال،[18] إلا أن اثنين من مستشاري وزارة الشئون الدينية صرّحا، في وثائقي تليفزيوني في عام 2012 حول المسيحية في تونس، بأن التونسيين المنتمين للطوائف المسيحية يفتقرون لأي إطار تشريعي لممارسة شعائرهم الدينية في المجال العام.[19] وقد شدد كلا من وداد ورشيد من جمعية التلاقي على أن هذه الكنائس تعمل تحت إشراف أجنبي (إشراف فرنسي على ما يخص الكنيسة الإصلاحية)، ولكن التونسيين لا يحظون بالاعتراف.[20]

في تونس، مثل كل بلد أصبحت جزءً من الإمبراطورية الإسلامية في القرن السابع الميلادي، تم الاعتراف باليهود والمسيحيين باعتبارهم أهل كتاب وخضعوا لنظام أهل الذمة. وسمح لهم هذا النظام، القائم على القبول والتسامح، ببعض الحقوق المعينة، ولكن ليس لجميعهم بالطريقة التي نفهم بها الحقوق المدنية والسياسية الكاملة في وقتنا الحاضر.[21] وخلال إنشاء نظام حماية الأقليات في وقت مبكر، أدى ذلك في نهاية المطاف إلى جعل الأقليات في مكانة أدنى، ولا يزال ذلك يؤثر جزئيًا على التصور الحالي للأقليات الدينية.

بالرغم من أن غالبية الحقوق في تونس المعاصرة مكفولة، إلا أن الأقليات الدينية لا يمكنها (بحكم القانون أو الممارسة أو المعتقد المشترك) أن تشغل عددًا محدودًا للغاية من المهن، لكنها ذات صلة كما سنوضح لاحقًا. في خبرتي، فأنا أجد أن مفهوم الأقلية ذاته غالبًا ما يكون مرفوضًا في بلدان المنطقة، بما في ذلك تونس، وذلك على الأرجح بسبب ما سبق وبسبب إرث الحكم الاستعماري الفرنسي الذي منح امتيازات لطوائف معينة على حساب الأغلبية، فضلًا عن “الولاء” المُتخيَّل لتلك الطوائف لأطراف تراها الهوية الوطنية الناشئة باعتبارها الآخر. الميل للربط بالقوى الغربية التقطه غسان عياري الناشط في مجال حقوق الإنسان قائلًا: “بالنسبة لمواطن تونسي، فإنه من الطبيعي أن تسمع أن شخص ما هو تونسي يهودي، برغم أنه التعامل معه يتم باعتباره موضوع فلكلوري إلى حد ما؛ ولكن بالنسبة لتونسي عادي يسمع عن شخص ما باعتباره تونسي مسيحي؛ فإن هذا سيعني له أن ذلك الشخص إما أنه يتلقى أموالًا لخدمة أجندة أجنبية أو أنه يرغب في مغادرة البلاد”.[22]

ساهمت كل هذه العوامل في استمرار التصور المجتمعي للأقليات الدينية كأجانب (المسيحيين بشكل أكبر من اليهود لأن الأخيرين لهم وجود قديم في البلاد)، أو على الأقل ليسوا تونسيين بشكل كامل. ربما يرتبط ذلك ببناء الهوية استنادًا إلى مفهوم أحادي، حيث يغدو “المواطن التونسي المثالي” هو عربي ومسلم، وحيث يصبح كونك عربيًا يعني تلقائيًا أنك مسلم والعكس صحيح. على الجانب الآخر، تلاحظ نور أبو عصب أنه في الأردن على سبيل المثال، بما إنه لا يوجد مفهوم واضح لما يعنيه كونك أردنيًا؛ حيث تم بناء مفهوم القومية في الأردن حول مفهوم “العروبة”، فقد أصبح من المفترض بشكل عام أن كونك أردنيًا يعني كونك بالتبعية عربيًا؛ وهو الأمر الذي يضع الأردنيين من غير العرب في وضع يضطرون فيه لتطوير سرديات للتفاوض حول هويتهم،[23] الأمر ذاته ينطبق على الحالة التونسية. على الجانب الآخر، كما لاحظت امرأة تونسية أمازيغية أجريت معها مقابلة: “عندما تشرع بالكلام مع الناس حول القضية الأمازيغية؛ فإنهم يسألونك على الفور عما إذا كنت مسلمًا. يوجد دومًا نقص في التمييز بين الدين والهوية”.[24]

عندما يتعلق الأمر بالبهائيين، فيمكن اعتبارهم أقلية دينية “حديثة” في تونس: البهائية وصلت البلاد في عام 1921 مع محي الدين الكردي.[25] ويمكن للمرء الجدال بأن البهائيين، الذين لم ينالوا الاعتراف بهم تاريخيًا باعتبارهم أهل كتاب، يواجهون المزيد من العراقيل ليحوزوا القبول، حيث لم يتم الاعتراف بهم رسميًا بعد. في عام 2008، اعتبر مفتي الجمهورية التونسية آنذاك كمال الدين جعيط، أن “البهائية كفر بالاسلام وهي تستهدف النيل من عقيدة وشريعة ومنهاج الحياة”.[26] قد يشهد ذلك على حقيقة أن البهائية يُنظر إليها في بعض الأحيان باعتبارها “تهديد” للمجتمع الإسلامي، وهو أمر يمكن التهويل من شأنه نتيجة فقر المعرفة في المجتمع بشكل عام حول معتقداتها. على الرغم من ذلك، يسعى البهائيون لمواجهة هذا الجهل بمشاركة المعلومات والانخراط بنشاط في الأحداث العامة حول التعايش المشترك وحقوق الإنسان والمواطنة. على سبيل المثال، وجهت الطائفة البهائية في مارس 2020 دعوة لكافة المجموعات الدينية لأداء صلاة جماعية عبر الإنترنت لرفع بلاء جائحة كوفيد-19.[27]

نتيجة لتلك العراقيل، وأيضًا لأنه لا يوجد في البهائية رجال دين؛ فإن الحصول على تقدير دقيق لعدد البهائيين في تونس يعد أمرًا في غاية الصعوبة. على الرغم من أن لديهم مؤسسات منتخبة ديمقراطيًا، إلا أن الإيمان يُعد مسألة فردية حيث لا يولد المرء بهائيًا بشكل تلقائي. البعض يقول إن عددهم بالمئات أو ربما بضع آلاف، ولكن ممثلي الطائفة البهائية مترددون للغاية في تأكيد ذلك. توجد صفحة رسمية على موقع فيسبوك وتحظى بإعجاب نحو 16 ألف شخص، وقد يشهد ذلك على الاهتمام المتزايد بالطائفة، إلا أنه لا يمكن استخدامها لتقديم تقديرات بشأن عدد المؤمنين الحقيقي.[28]

كما هي الحالة مع الأقليات الأخرى المذكورة آنفًا، ولكن ربما يظهر ذلك أكثر في حالة البهائيين، فإن مفهوم الأقلية لم يتم اعتماده بشكل خاص، بدلًا من ذلك فإن الطائفة تشدد على الحاجة للعمل على مفهوم المواطنة. ذلك الموقف يمكن أن تدعمه حقيقة أنه من ضمن المعتقدات الرئيسية للبهائية، الدعوة لإيلاء عناية خاصة بالزمن الحالي الذي يحيا فيه المرء، والمساهمة في المجتمع، واحترام قوانين الدولة.

في الختام، نجد أن طوائف اليهود والمسيحيين والبهائيين في تونس تعرض تاريخًا مختلفًا للغاية؛ بما ينعكس في مستوى الضمانات القانونية التي سنتناولها في الفصل التالي. برغم ذلك، فإنها جميعًا تناضل وتفاوض باستخدام تصور معين لهويتها في مقابل تصور أحادي لمفهوم المواطن التونسي، الذي يُتوقع أن يكون عربيًا مسلمًا.

الضمانات القانونية للأقليات الدينية بعد الثورة

شدد دستور 2014 في ديباجته على “الهوية العربية الإسلامية” لتونس. حيث تنص المادة الأولى على أن: “تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها..”. وعلى مدى الأعوام الستة الماضية، اندلعت جدالات عديدة حول ما إذا كانت الإشارة في كلمة “دينها” تتعلق بالدولة أم “الشعب” التونسي، ولكن غالبية المعلقين يعتقدون أن ذلك الالتباس تم توضيحه في المادة الثانية التي تنص صراحة على أن “تونس دولة مدنية”، وهكذا لا يمكن إضفاء الشرعية على الإسلام كمصدر للقانون.

لطالما حظيت حرية الدين أو المعتقد بالاعتراف في تونس الحديثة. حيث ضمن عهد الأمان الذي منحه محمد بك في عام 1857 المساواة المدنية والدينية بين الجميع؛ وهو ما مثّل نقطة تحول في تاريخ تونس وأقلياتها. فقط بعد سنوات قليلة، في عام 1861، كفل الدستور الحماية والمساواة لجميع المواطنين، وذلك بغض النظر عن دينهم (المادتين السادسة والثمانين والثامنة والتسعين). وفي عام 1957، تم توحيد النظام القضائي التونسي (مع إبطال المحاكم الشرعية والأحبار اليهودية والفرنسية). وفي أول دستور جمهوري، الصادر في عام 1959، نصّت المادة الخامسة على ضمان “حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالأمن العام”.

حرية الدين أو المعتقد مكفولة حاليًا بموجب المادة السادسة في الدستور التونسي لعام 2014. وبرغم ذلك، فإن هذه المادة أيضًا تنص على أن “الدولة راعية للدين” وأنها تتولى “حماية المقدسات” دون توضيح ما يستلزمه ذلك. وكما لاحظ المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية الدين أو المعتقد أحمد شهيد، بعد زيارته لتونس في عام 2019: “إن مثل هذا النص يمكن أن يمثّل معضلة لو تمت ترجمته كالتزام على الدولة لحماية الدين في حد ذاته بدلًا من الأفراد”.[29] وقد جادل بعض المعلقين بأنه يبدو أن تلك المادة قد تم تطبيقها حتى الآن فقط للدفاع عن حساسيات المسلمين، بينما لا تؤخذ حوادث الكراهية ضد المنتمين للأقليات الدينية وأماكنها المقدسة على محمل الجد مثلما سنوضح أدناه.

علاوةً على ذلك، فإن حرية الدين أو المعتقد تهدف إلى إضفاء الحماية على حرية التحول من دين لآخر، وكذلك عدم الإيمان بأي دين. وبرغم هذا ثبت أن تلك قضية لها حساسيتها؛ لا توجد في تونس قوانين تدين الردة صراحة، إلا أن المتحولين عن الإسلام يواجهون ضغوطًا عائلية ومجتمعية. كذلك لا توجد قوانين تدين التجديف، ومع ذلك فمنذ الثورة تم الاستشهاد في بعض الحالات بمواد النظام العام والآداب العامة في القانون الجنائي؛ لمقاضاة الكلام أو السلوك الذي من شأنه الإساءة إلى المشاعر الدينية. في هذا الإطار، نذكر قضية حدثت وقائعها في عام 2012، وتم فيها الحكم على شابين تونسيين بالسجن لسبع سنوات ونصف؛ لنشرهما رسومًا كاريكاتيرية للنبي محمد على موقع فيسبوك؛ وذلك استنادًا إلى المادة 121 (3) في القانون الجنائي، المتعلقة بنشر مواد من شأنها “أن تسبب الضرر للنظام العام أو الأخلاق العامة”. حُكم على أحدهما غيابيًا وأطلق سراح الآخر في عام 2014 بعد مكوثه عامين في السجن.[30] وهناك قضية أخرى تتعلق ببعض المفطرين خلال شهر رمضان في عام 2017، وقد تمت إدانتهم على أساس المادة 226 والمادة 226 مكرر في القانون الجنائي (الإساءة إلى الآداب والأخلاق الحميدة) لتناولهم الطعام والتدخين أو الشرب في الأماكن العامة.[31] وتم الإبلاغ عن حوادث مماثلة بوساطة تجمع لمنظمات المجتمع المدني في عام 2019، مثل حادثة صاحب مقهى في القيروان، والذي أدين بالحبس لمدة شهر مع وقف التنفيذ وبالغرامة بسبب الإساءة العلنية للآداب؛ لأنه أبقى المقهى مفتوحًا خلال ساعات الصيام في شهر رمضان.[32]

إن حظر ممارسة الأقليات الدينية لأنشطة التبشير والدعوة يُعزى إلى مصادر مختلفة: منشور دوري منذ الثمانينيات (لا يمكن الوصول لنصه على الإنترنت)، واتفاقية “مودوس فيفندي” مع الفاتيكان، وأحكام القانون الجنائي السابق ذكرها. وقد ثبت أن ذلك يمثّل معضلة حقيقية للمتحولين للمسيحية، الذين تم استهدافهم في حوادث متعددة خلال السنوات الأخيرة. في عام 2016، استجوبت قوات مكافحة الإرهاب مجموعة من المسيحيين من أصول مختلفة (جزائريين ومصريين وتونسيين) بسبب تحدثهم فيما بينهم في أمور تخص الدين على أحد المقاهي.[33] وفي فبراير 2020، أُلقي القبض على مجموعة من المبشرين الأجانب لقراءتهم الإنجيل. وعلى الرغم من أن الأنباء ترددت في العديد من وسائل الإعلام، إلا أن الأساس القانوني الذي تم الاستناد إليه في توجيه الاتهام إليهم لا يزال غامضًا.[34]

وفقًا لعياري، فإن السلطات يمكنها توجيه الاتهام بالتبشير، ويمكن إلقاء القبض على الأشخاص لمجرد امتلاكهم للكتاب المقدس وإعطائه لشخص ما. وأضاف أن تلك المشكلة يبدو أنها تؤثر على المؤمنين البروتستانت أكثر من الكاثوليك، لأن الوجود الكاثوليكي معترف به ومُنظّم كما أوضحنا سابقًا.

ويتجلى اعتراف الدولة بالطائفة اليهودية لوجودها طويل الأمد، في حقيقة أن الحاخام الرئيسي يتلقى راتبه مباشرةً من الدولة. كما توفر الدولة الأمن لجميع المعابد اليهودية. في عام 2019، أولي اهتمام بالغ –فضلًا عن التمثيل الحكومي– للحج اليهودي السنوي إلى كنيس الغريبة في جزيرة جربة (المعروفة بأنها أحد المعالم اليهودية الرئيسية منذ آلاف السنين). وجاء ذلك في أعقاب تعيين رجل الأعمال اليهودي روني الطرابلسي وزيرًا للسياحة في عام 2018، وهو ما اعتبره كثيرون بادرة جيدة لإعادة تنشيط السياحة.[35]

الطائفة البهائية قادت المعركة القانونية الرئيسية للحصول على الاعتراف، حيث تم رفع ثلاث قضايا بعد الثورة للتسجيل كمنظمة مدنية. ومنذ عام 2012، حاولت التسجيل تحت اسم “الجمعية البهائية التونسية”. وقد رفض رئيس الوزراء الطلب بسبب إدراج “البهائية” في اسم لجمعية مدنية (مع التذرع بأن المنظمات المدنية لا يفترض أن تكون دينية بطبيعتها، برغم وجود العديد من المنظمات المدنية الإسلامية). وقد لجأت الطائفة إلى المحكمة الإدارية لاستئناف هذا القرار، لكونها لم تستلم أي رد؛ فقد شرعت أيضًا في اتخاذ إجراءات تخص القضية نفسها أمام المحكمة الابتدائية. وقد تم رفض القضية على أساس القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء.

في عام 2017، أرسلت الطائفة خطابًا إلى رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الوزراء، لإدانة التمييز ضدها وللمطالبة بالاعتراف بعقيدتها، لا سيما الجمعية الروحية الوطنية. وأخيرًا في عام 2020، حصلت الطائفة البهائية على قرار إيجابي بشأن الحكم الأول من المحكمة الإدارية. مع ذلك، فإن القرار لم يكن نهائيًا حتى وقت كتابة هذه السطور، إذ أن هناك احتمالية لأن تقوم رئاسة الحكومة بالاستئناف. من الناحية الفنية فقد انتهت المهلة الممنوحة للاستئناف؛ نتيجة إجراءات الإغلاق المفروضة للاستجابة لجائحة كوفيد-19، حيث أوقفت المحاكم معظم أعمالها ولا يزال من غير الواضح متى سيتم نشر الحكم النهائي. في أعقاب الترحيب بقرار الدرجة الأولى والنص المعتمد من قِبَل المحكمة، وجد محمد بن موسى، عضو المكتب الإعلامي للطائفة البهائية، أنه “مرجع يحتوي على حجج تثير الإعجاب ويمكن استخدامها باعتبارها فقه تشريعي حول الموضوع من قِبَل الطوائف الأخرى. هذا أمر لا يخص البهائيين فحسب، بل مساهمة من أجل حقوق المواطنة”.[36]

فيما يتعلق بالزواج المختلط؛ ففي سبتمبر 2017 تم إلغاء منشور صدر منذ عام 1973 كان يمنع زواج التونسيات من أصول مسلمة من الرجال غير المسلمين. وبرغم ذلك، فإن بعض الموظفين المدنيين في الدولة لا يزالون يمتنعون عن إبرام بعض عقود الزواج،[37] وهو إجراء يتعارض مع حقيقة أن الزواج في تونس من الناحية الفنية هو زواج مدني (يمكن للعائلة أن تضيف المراسم الدينية بإحضار إمام للمكتب). علاوةً على ذلك، فوفقًا لقانون 1957، لا تحتوي الوثائق الرسمية، مثل شهادات الميلاد والزواج والموت، على معلومات بشأن ديانة المواطن.

بينما تعتبر المقابر عمومية وفقًا للقانون (حيت تتم إدارتها من قِبَل المجالس البلدية وليست المؤسسات الدينية)، فإن مسائل الدفن يتم التعامل معها وفقًا للتقليد الإسلامي السُنّي. ولأن الأقليات المسيحية الأخرى غير معترف بها؛ تتولى أبرشية تونس الكاثوليكية مسئولية المقبرة المسيحية الرئيسية في برغل (المجاورة للمقبرة اليهودية) في تونس. ويعني ذلك أن التونسيون المولودين بأسماء مسلمة (أي الجميع باستثناء أولئك المولودين في عائلات يهودية) وتحولوا لديانات أخرى، مثل البهائية والمسيحية، لا يملكون الحق في أن يتم دفنهم وفقًا لمعتقداتهم، مع استثناء الذين تم تعميدهم وفقًا للتقاليد الكاثوليكية بشكل رسمي. في عام 2018، قدمت الطائفة البهائية عريضة لوزير الشئون المحلية؛ للسماح لهم بإنشاء مقبرة بهائية، ولكن لم يتم الرد على الطلب بعد. كما طلبت جمعية التلاقي السماح لها بإنشاء مقبرة لجميع الطوائف المسيحية، لكي يمكن أن يُدفن فيها تونسيون وأجانب على السواء.

عندما يتعلق الأمر بالكنائس الأخرى غير الكاثوليكية، فإنها متروكة في نوع من الفراغ القانوني، حيث إنها تحت رعاية الدول التي أسستها؛ على سبيل المثال، الكنيسة الفرنسية الإصلاحية في شارع شارل ديجول. برغم ذلك، فإن التونسيين الذين يترددون على تلك الكنائس غير معترف بهم. ولأن هذه الكنائس يتردد عليها غالبًا الأجانب، لا سيما المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، فيبدو أن السلطات تتعامل معها بروح “عدم التدخل”، وفي المقابل تحافظ تلك الكنائس على “هدوئها” وعدم التسبب في المشاكل، من خلال إبقاء الاحتفالات بشكل صارم داخل مبانيها، على سبيل المثال. وكان المطلب الرئيسي لجمعية التلاقي هو إنشاء كنيسة تونسية مستقلة تجمع كل الطوائف المسيحية ليتمكنوا من إدارة شئونهم؛ ولذلك فإن الجمعية تعمل على تحسين التواصل بين المجموعات المختلفة لتوحيد الصوت.

التمييز القانوني المباشر الأبرز الذي تواجهه الأقليات الدينية منصوص عليه في المادة الرابعة و السبعين من الدستور، حيث تؤكد على أن المسلمين وحدهم المؤهلون للترشح لمنصب الرئيس. قبل أي شيء، فإن هذا يمكن اعتباره معيارًا وهميًا، حيث إن كونك مسلمًا عادةً ما “يحدده” اسم العائلة، وهو لا يعني بالضرورة أن الشخص مؤمنًا أو أنه لم يعتنق ديانة أخرى؛ فغالبية التونسيين الذين اعتنقوا المسيحية أو الديانات الأخرى احتفظوا بأسمائهم التي ولدوا بها. ثانيًا، إن ذلك يعزز التصور السابق ذكره حول أن التونسي “الحقيقي” هو مسلم، وأن التونسي/التونسية غير المسلم/المسلمة لا يكترث/تكترث لمصلحة بلده/بلدها بالقدر الذي يبديه المسلم ليتولى هذا المنصب المرموق.

خلال إجراء مقابلات مع بعض المنتمين لأقليات دينية مختلفة لإنجاز دراسة سابقة؛ اتضح أنه حتى لم لو تكن تلك المادة موجودة، فإن هناك شعورًا مشترك بأنه لا أحد ينتمي لأقلية دينية “سيجرؤ” على التفكير في الترشح للرئاسة. علاوةً على ذلك، فعلى الرغم من أن القانون 112 لسنة 1983 يحمي حرية الضمير لموظفي الحكومة، إلا أنه على صعيد الممارسة –من أجل القيام ببعض المهام العامة أو الالتحاق بمهن معينة، مثل القضاء أو المحاماة– يجب على المرء القسم على المُصحف كجزء من مراسم تقلد المنصب.

جدير بالذكر أيضًا أن المادة التاسعة والثلاثين من الدستور تكفل الحق في التعليم العمومي المجاني، إلا أنها أضافت أنه من ضمن مهام الدولة العمل “على تأصيل الناشئة في هويتها العربية الإسلامية”. وقد سلّط المشاركون والمشاركات، في المقابلات السابقة والحالية، الضوء على افتقار المناهج الدراسية للمعلومات بشأن الديانات والأعراق المختلفة في البلاد، بالإضافة إلى أصولها الأمازيغية. ويساهم ذلك في إخفاء التنوع في البلاد على مر السنين.

في الختام، يمكن القول إن الأقليات الدينية في تونس ليست ضمن الأقليات التي تتمتع بأكبر قدر من التقدم، وذلك فيما يتعلق بالضمانات القانونية للحقوق والحريات الفردية التي جاءت مع ثورة 2011. في الواقع، إن الإطار القانوني شهد تقدمًا طفيفًا بالمقارنة مع الوضع قبل الثورة، حيث كانت غالبية الأقليات الدينية تتمتع بالفعل بمجموعة معينة من الحقوق. وفي هذا الإطار، فمن الناحية القانونية أو المجتمعية، تتسم البيئة التونسية بالـ “التسامح” وليس بضمان حقوق المواطنة الكاملة، كما سنرى في الأقسام التالية. برغم ذلك، سنناقش أولًا كيف أن قضية العرق يمكن لها أن تتشابك مع قضية الدين.

العرق في تونس: إخفاء مجتمعات السود

قضية العرق في تونس تتمتع بحساسية خاصة، ويمكن تلخيصها في نقطتين إشكاليتين رئيسيتين: الأولى، أن الحكومة لا يبدو أنها تمانع في الاعتراف بالأصول المختلطة للبلاد؛ حيث يتم ذكر الأمازيغ والبيزنطيين والعثمانيين عند مناقشة الماضي. وبرغم ذلك، فإن الحكومة تعتبر أن السكان الآن “متجانسين عرقيًا”، وهذا يعزز الخطاب الذي يفترض أن تسع وتسعين بالمئة من التونسيين هم عرب مسلمون، ويتم تناول الأمازيغ باعتبارهم أشخاص من الماضي ولا صلة لهم بالحاضر. وفقًا لعياري “إن الخطاب المُعلن منذ الاستقلال، وحتى بعد الثورة، يربط تاريخ تونس بالحقبة العربية فقط. ويحجب الحلقات الأخرى من التاريخ وما تحويه من ثراء وتنوع نمتلكه بالفعل (اليهودية والمسيحية والمسلمين غير السُنّة والتاريخ الأمازيغي.. الخ)”.

النقطة الإشكالية الثانية تتعلق بالتونسيين السود. إذا كانت المجتمعات الأمازيغية والعربية يمكن لها أن تختلط بالآخرين في الوقت الحاضر دون أن تكون ملحوظة، فلا مفر أمام التونسيين السود من مواجهة السؤال العرقي؛ لأنه يمكن تمييزهم بسهولة. في هذا الصدد، فعلى الرغم من أن تونس قد أصدرت في أكتوبر 2018 قانونًا ضد التمييز العنصري؛ إلا أن الحكومة تبدو غير متحمسة بالقدر الكافي للاعتراف بالأصول الأفريقية للبلاد. إن تاريخ السكان السود مرتبط غالبًا بتاريخ تجارة الرقيق عبر الصحراء خلال العهد الحسيني (1705-1881)، بالإضافة إلى مجموعات أصغر جاءت كمهاجرين لأسباب اقتصادية أو لدراسة الدين في جامعة الزيتونة.

على الرغم من صعوبة العثور على أرقام دقيقة؛ لكون الحكومة لا تجمع بيانات مصنّفة، تُشير المنظمات المجتمعية إلى أن نحو من عشرة إلى خمسة عشرة بالمئة من تعداد السكان هم من السود.[38] كنتيجة للإخفاء، فإن التونسيين السود معرضون للعنصرية وأحيانًا حتى للمعاملة باعتبارهم غير تونسيين، على الأقل من قِبَل أولئك الذين لا يعرفونهم بشكل شخصي، إذ ربما يفترض المرء أنهم من جنوب الصحراء الكبرى حتى يسمعهم يتحدثون العربية باللهجة التونسية. وكما شرح يانكوفسكي: في حين تم اعتبار البربر واليهود ]…[ سكانًا أصليين آخرين بالنسبة المسلمين المتحدثين بالعربية والمهيمنين سياسيًا، تم اعتبار المنتمين لجنوب الصحراء غرباء من الناحية الجغرافية والثقافية. ومع ذلك، فمن غير الممكن تصنيفهم باعتبارهم غير مسلمين أو غير متحدثين بالعربية، حيث أن غالبية العبيد تم تحويلهم للإسلام قبل أو بعد وصولهم إلى شمال أفريقيا، وتعلموا التحدث بالعربية فور وصولهم.[39]

في ذلك الوقت، نظم العديدون ما يُعرف بديار الجماعة، وهي شبكة دعم ذاتي مكونة من الأسر التي تستضيف العبيد، وفيما بعد العبيد السابقين وأبناء المهاجرين المهمشين النازحين، الذين احتفظوا بطقوسهم حية ومزجوها مع الممارسات الإسلامية الشعبية في تونس. هذا المزج وهب الحياة لما يُعرف بالسطمبالي.[40] السطمبالي هي كلمة تونسية تستخدم للإشارة إلى مجموعة من العادات والممارسات، بما يشمل موسيقى حلقات الزار، وهي تُمثّل ظاهرة التوفيق بين السمات التي تُميز كل من جنوب الصحراء وشمال أفريقيا، مثل التبرّك بالأولياء من السود والبيض. ولا يمكن اعتبار السطمبالي أقلية دينية بالمعنى الدقيق:

حتى وقت قريب نسبيًا، كانوا يمثلون مجموعة اجتماعية تتألف من أشخاص اعتمدت العلاقة المتبادلة بينهم على شعور معين بالانسجام والترابط. ومن ثم، فإن مصطلح “طائفة” لن يكون غير ملائم بقدر ما يتم تطبيقه على مجموعات الأفراد الذين يشتركون فيما بينهم في السمات الثقافية واللغوية المشتركة، والتضامن الاجتماعي وخصائص التنظيم الهرمي.[41]

على الرغم من أن السطمبالي قد تعرض للانتقاد من قِبَل بعض العلماء المسلمين؛ بسبب التبرّك بالأولياء وإدخال الممارسات الروحانية، فإن على المرء أن يلاحظ التالي: أ) يعتبر السطمبالي أنفسهم مسلمون، حيث إن ديانتهم هي الإسلام، وسيُعد اعتبارهم أقلية دينية بمثابة إهانة، ب) المنتمين للسطمبالي هم تونسيون مسلمون (وأحيانًا يهود)، ويمكن أن يعزى عدم التناقض في ذلك بالنسبة لمعظم التونسيين إلى تاريخ التصوف والاحترام العام للتبرّك بالأولياء والتوجه الإسلامي المعتدل المعروف في البلاد.[42] من المهم أيضًا التأكيد على أنه برغم إمكانية العثور على الحركات المشابهة في دول أخرى في شمال أفريقيا، إلا أن السطمبالي هو مزيج مركب من مرجعيات تنتمي إلى جنوب الصحراء والإسلام وتونس والعثمانيين، ولا يمكن العثور على هذا المزيج سوى في تونس، ولم تنشأ في أي بلد في جنوب الصحراء.

نحن ندرك أنه لا توجد علاقة معاصرة بين (القليل المتبقي) من التونسيين المنحدرين من الأفارقة الجنوب صحراويين الذين ما زالوا يمارسون السطمبالي في الوقت الحاضر، وبين المهاجرين الحاليين من جنوب الصحراء الكبرى. فوفقًا للإحصاء الرسمي للسكان في عام 2014، كان هناك 53.490 أجنبيًا يعيشون في تونس، ثلاثة وخمسين بالمئة منهم جاءوا من بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في مقابل ثمانية وعشرين بالمئة من أوروبا وأربعة عشرة بالمئة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (7.524). ومع ذلك، ينبغي ملاحظة شيئين. أولًا، ربما تكون الأرقام في الواقع أعلى بكثير، إذا أخذنا في الاعتبار النسبة المرتفعة لأولئك الذين يعيشون في تونس في وضع غير قانوني. على سبيل المثال، في عام 2015، أبلغت رابطة الطلاب والمتدربين الأفارقة في تونس عن أكثر من 8000 طالب من جنوب الصحراء الكبرى. ثانيًا، على الرغم من أن المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى لا يشكلون النسبة الأعلى، فإن ثلثي عدد المتقدمين للحصول على اللجوء في تونس يأتون من دول جنوب الصحراء الكبرى.[43] ومن بين المهاجرين، فهم عادةً ما يكونوا في أكثر الحالات ضعفًا (بما في ذلك تعرضهم للاتجار في البشر)، نتيجة لعدة عوامل: ظروفهم قبل السفر، وصعوبة حصولهم على الأوراق، وأوضاعهم الهشة اجتماعيًا واقتصاديًا، فضلًا عن العنصرية.

في مستهل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تزايد عدد المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، بل وتزايد أكثر بعد الثورة. لا يمكن اعتبار تونس بلد عبور، ولكنها في الوقت الحاضر بمثابة وجهة للدراسة والعمل والفرص. وبرغم ذلك، وبسبب تفشي العنصرية، أكدت رابطة الطلاب والمتدربين الأفارقة في تونس أن نحو نصف عدد الطلاب من جنوب الصحراء الكبرى، والبالغ عددهم 12 ألف طالب، غادروا في السنوات الأخيرة بسبب تعرضهم للإذلال في المجال العام وللاعتداءات اللفظية والبدنية.[44]

على الرغم من أنه لا يمكن اعتبار المهاجرين أقلية، ولأنهم يمثلون فئة قانونية بحد ذاتها وفقًا للقانون الدولي، لكن من المهم ذكرهم في هذا السياق؛ لأنهم يشكلون ما يقرب من تسعين بالمئة من عدد المسيحيين في تونس (دون نسيان وجود العديد من المهاجرين المسلمين من جنوب الصحراء الكبرى) ولهذا بعض التداعيات.

أولًا: إن العدد الكبير للمهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى الذين يواظبون على ممارسة شعائرهم الدينية مقارنةً بالمهاجرين الأوروبيين، ينعكس في تكوين رجال الدين الكاثوليك في تونس: فمن بين نحو ثلاثين كاهنًا، نجد أن غالبيتهم العظمى من جنوب الصحراء الكبرى، بما في ذلك الممثل العام لإيبارشية تونس، وهو ما يشهد على واقع متغير مقارنةً بالعقود السابقة التي كان فيها معظم الكهنة إيطاليين وفرنسيين. والفرنسية هي اللغة الرسمية للكنيسة التونسية، على الرغم من بعض الجهود لأداء أجزاء من القداس باللغة العربية الفصحى؛ لأن بعض رجال الدين جاءوا من دول ناطقة بالعربية. ولكن ينبغي ملاحظة أن اختيار الفرنسية يسمح لكل الجنسيات بفهم القداس؛ حيث أن كثيرًا من المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء الكبرى أو أوروبا لا يتحدثون العربية. هذا الواقع أيضًا ينعكس في الطائفة المسيحية البروتستانتية، حيث يأتي غالبية رجال الدين من دول جنوب الصحراء الكبرى.

ثانيًا، أدى ذلك إلى ترسيخ روح التسامح وعدم التدخل من الدولة، وهو ما يرتبط بالعدد المتزايد من المهاجرين، وانتقال بنك التنمية الأفريقي إلى تونس بين عامي 2003 و2014، والاتفاقيات الثنائية بين تونس ودول جنوب الصحراء الكبرى. وبينما لم تتدخل الدولة قط في الممارسات الدينية للطوائف الأجنبية؛ فإن هذه الطوائف في المقابل كانت حريصة على ألا تكون مرئية بشكل مفرط وعلى عدم التسبب في المشكلات.

برغم أن تسامح الدولة مع هذا الوجود يشير إلى روح الانفتاح التي تميز السياسة التونسية، إلا أنه يظهر أيضًا كيف يمكن تفويت بعض الفرص. على سبيل المثال، ترسل الدولة ضباط أمن وممثلين رسميين لحضور الاحتفالات الكاثوليكية، ولكنها لا تفعل المثل مع احتفالات البروتستانت. وكما أشار أحد المهاجرين الذين أجريت معهم مقابلة “حتى خلال مواجهة جائحة كوفيد-19، حيث يمكن لممثلي هذه الأديان أن تلعب دورًا في رفع الوعي، لم تكن هناك تعبئة رسمية، على سبيل المثال، لتفسير أسباب إغلاق أماكن العبادة والتشديد على أن المهاجرين يجب عليهم عدم التجمع في الأماكن الخاصة لأداء الشعائر الدينية. حيث توجد مخاطرة، ليس فقط في كسر القواعد، وإنما في نشر الفيروس”. علاوةً على ذلك “إن هؤلاء الناس ]الشخصيات الدينية[ يمكن أن يلعبوا دورًا استراتيجيًا أيضًا في مكافحة الاتجار بالبشر”.[45]

ختامًا، إن الشئون الروحية لمجتمعات التونسيين السود لم تؤخذ في الاعتبار في الرواية الرسمية التونسية. أما بالنسبة للمهاجرين السود، فقد تم التسامح مع ممارستهم لشعائرهم الدينية. في الواقع، إن قصص مراقبة التجمعات الدينية الخاصة أو القيود على تعبير المرء عن حريته في الدين أو المعتقد المذكورة أعلاه، تتعلق فحسب بالحالات التي يتورط فيها تونسيين. لذا أعتقد أن التسامح إزاء ممارسات المهاجرين لشعائرهم الدينية يرجع إلى حقيقة أنهم كأجانب لا يُنظر إليهم باعتبارهم “تهديدًا” للهوية العربية الإسلامية للبلاد.

إطلالة على الحقائق اليومية بعيدًا عن الضمانات القانونية

وفقًا لعياري، يوجد ما بين ستين وسبعين تونسي كاثوليكي تم تعميدهم واستلموا شهادة التعميد من الكنيسة؛ وهي تتيح لهم بأن يكونوا معترفًا بهم في الإيبارشيات الأخرى، فضلًا عن إتمام إجراءات الزواج.. الخ. ومن ثم، فبما أن الدولة التونسية تعترف بالكنيسة الكاثوليكية كما رأينا فيما سبق، فإنه ينبغي عليها بالتبعية الاعتراف بكل المؤمنين الذي اعترفت بهم هذه السلطة.

مع ذلك، فإن الطريق للمسيحية يستغرق وقتًا طويلًا، حيث أن رجل الدين مسئول عن التحقق من صدق نية المريد، بينما لا يحق له ممارسة أي نشاط تبشيري. وفي حين لا يوجد كاهن تونسي كاثوليك في تاريخ تونس الحديث، فإنه يوجد حاليًا راهب مبتدئ يُعد نفسه ليصبح أول راهب تونسي كاثوليكي. وكشفت الأبحاث النقاب عن وجود العديد من رجال الدين التونسيين البروتستانت. ومع ذلك، فيبدو أنه لا توجد لهم علاقة مع وزارة الشئون الدينية التونسية، كما هو الحال مع رجال الدين البروتستانت الأجانب، الذين يتم تعيينهم وإدارتهم من قِبَل الدول التي تُشرف على تلك الكنائس.

إن حقيقة تنظيم شئون الكنيسة أثناء الحماية الفرنسية أولًا ثم بعد الاستقلال، بهدف تنظيم حياة الفرنسيين والإيطاليين والمالطيين الذين يعيشون في البلاد؛ لا يزال لها تأثيرها على التونسيين الكاثوليك: “إن غالبية التونسيين ينظرون إلينا باعتبارنا نوع من الامتداد للوجود الفرنسي في تونس.]…[ حتى في الخطاب الإعلامي حتى يومنا هذا، يتم استغلال هذا الربط بين الكاثوليك التونسيين والشعب الفرنسي” وفقًا لعياري.

عندما يأتي الأمر لوسائل الإعلام السائدة، فإن قضية الأقلية غالبًا ما يتم تجاهلها أو مناقشتها بطريقة إشكالية وتنميطية. في الفيلم الوثائقي المذكور سابقًا والمنتَج في عام 2012 بوساطة محطة الحوار التونسي التليفزيونية حول التونسيين الكاثوليك، يبدأ الصحفي بتوجيه أسئلته إلى الناس في الطرقات، حول ما إذا كانوا يعرفون ويقبلون بوجود تونسيين مسيحيين. وبعد ذلك يحاول الصحفي أن “يضبط” تونسيين يغادرون كنيسة بروستانتية بينما يسألهم بنبرة تبدو وكأنها تسعى لتصويرهم كمرتدين.

الخوف والافتقار للمعلومات والوصمة الاجتماعية حول التحول عن الدين، مشفوعين باستخدام اللغة الفرنسية قد يدفع أولئك المهتمين بتعلم المزيد إلى “إرجاء” محاولاتهم. في الواقع، على الرغم من أن الفرنسية هي أكثر الحلول عملية نظرًا لطبيعة تكوين الطائفة المسيحية في تونس، إلا أن ليس كل التونسيين يشعرون بالراحة مع اللغة ومع حقيقة أن غالبية المؤمنين ينتمون إلى طوائف مختلفة. وبالنسبة للبروتستانت التونسيين والناطقين بالعربية؛ فإنهم استطاعوا الحصول على خدمات باللغة العربية مرة واحدة أسبوعيًا في إحدى كنائس تونس. على الرغم من أهمية قضية اللغة، يعتقد عياري أن:

أولوية التونسي الكاثوليكي الآن هي أن يحظى بالقبول من المجتمع. عندما يتحدث الرئيس على شاشة التلفاز، فالمفترض أنه يوجه كلامه إلى جميع التونسيين، وليس المسلمين فحسب، ولكن في بعض الأحيان لا نشعر بأننا مخاطبين، وتتم معاملتنا كأننا شيء لا هوية له. لا يمكن أن نكون تونسيين مئة بالمئة لأنه لا تتم معاملتنا على هذا النحو من الناحية القانونية ولا من منظور الهوية. فمن المسلم به أن التونسي بالتعريف يجب أن يكون مسلمًا؛ والسؤال حول الانتماء الديني لا يتم طرحه من الأساس.

وقد أكدت وداد هذا الشعور: “الناس يتجاهلون وجود طوائف مختلفة داخل المسيحية، وأيضًا من غير المألوف بالنسبة إليهم أن يسمعوا بوجود تونسي مسيحي”.

وفيما لم يواجه عياري قط أي مشكلات مع عائلته أو الأشخاص الذين يعرفهم، فإنه يتلقى إهانات بين الحين والآخر على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ أن نشاطه في مجال حقوق الإنسان وانتمائه الديني ونشاطه الفني كلها أمور تجعله مرئيًا. وهو يعتبر نفسه محظوظًا مقارنة بآخرين واجهوا المصاعب ورفض عائلاتهم؛ بسبب تحولهم عن الإسلام. وقد أفادت جمعية التلاقي عن وقوع العديد من حوادث التحرش والترهيب التي واجهها المتحولين، ارتكب غالبية تلك الحوادث أفراد من العائلة والمعارف والجيران. وتقول وداد “لكنهم لا يرغبون أبدًا في تقديم شكوى، وعندما يذهبون لأقسام الشرطة يتم التقليل من شأن تلك الوقائع؛ وحتى عندما يقدمون شكوى فإنهم يشعرون بالهلع من الذهاب للمحكمة ويقومون بإلغاء الشكوى بعد شهر أو اثنين”.

على الرغم من أن أعضاء الطوائف المسيحية والبهائية في تونس يتشاطرون المخاوف نفسها؛ فإنهم أيضًا يتشاركون شعور معين بالأمل إزاء التطورات المستقبلية. وبكلمات بن موسى:

إنها فقط مسألة وقت. إن إيقاظ الوعي مسألة طويلة المسار، في بلد كل ما فيه أحادي اللون –لون واحد، حزب سياسي واحد، أيديولوجية واحدة، أمة واحدة، دين واحد، وعدم الاعتراف بالتمييز العنصري.. الناس الآن بدأوا في إدراك أننا متنوعون لأقصى حد. البعض يقبل بهذا، ولكن البعض الآخر ما زال يخشى الاعتراف بهذا التنوع وهذا مفهوم، ولكنه من المحتم في نهاية المطاف القبول بالتنوع لأن أحادية اللون هي محض وهم.

يعترف عياري أيضًا بأن الطائفة الكاثوليكية ظهرت للعيان في الآونة الأخيرة؛ لذا فإن قضاياها ستحتاج للوقت والجهد حتى تتم معالجتها “بفضل الشعور القوي بالمواطنة الذي يميز تونس والذي يتجاوز أي نوع من الطائفية”. أما بالنسبة لوداد فإن ما يحتاجونه هو “المثابرة والجلد والصبر”.

وفيما يتعلق بالمهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، فيبدو أن مخاوفهم غالبًا ما تتمحور حول قضايا مرتبطة بالتمييز العنصري. يقول واحد ممن أُجريت معهم مقابلة: “أنا أسمع طوال الوقت أشخاصًا تعرضوا للتمييز لأنهم سود، ولأنهم أجانب، لكني لم أسمع قط حوادث ذات صلة بالانتماء الديني”.

وقد شدد بن موسى على أن أولوية الطائفة البهائية هي حالة الطوارئ المتعلقة بالصحة العامة التي تسببت فيها جائحة كوفيد-19 وما سيتبعها من تطورات، وذلك بدلًا من التركيز على مصالح معينة لمجموعة واحدة.

كطائفة، فإن الأولوية بالنسبة لنا هي الدعوة للتضامن والوحدة والتماسك. نحن بحاجة لأن نكون متحدين في تنوعنا ]…[ وأن ندرك حدود سياسات الهوية. هذا في مصلحة تعزيز الكرامة في ظل وضع كارثي يعاني منه الشعب التونسي ]في إشارة إلى تدهور الوضع الاقتصادي بسبب التدابير المتخذة للحد من انتشار الفيروس[، بما في ذلك إخوتنا وأخواتنا من جنوب الصحراء الكبرى. نحن بحاجة إلى دعوة للتضامن تتجاوز الإطار القومي والوطني من أجل بناء وعي جديد بحقوق المواطنة.

خلال الفترة من مارس إلى مايو 2020، تم دمج العديد من المبادرات الموجودة بين الأديان. وفي هذا الإطار، شارك قادة دينيين وممثلين لطوائف مختلفة وجهات فاعلة في المجتمع المدني تنشط في المجال الديني في اجتماعات عبر الإنترنت؛ لمناقشة كيفية التأقلم مع الوضع الحالي ولتنسيق المبادرات لدعم من يحتاجون المساندة.

على الرغم من ذلك، فإن ظهور الأقليات الدينية في المجال العام لا يزال ضئيلًا؛ لا سيما عندما يتعلق الأمر بالمشاركة السياسية. إذ أن الأشخاص المعروفين يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة.

خاتمة: السعي لحقوق المواطنة الكاملة لا يزال مستمرًا

لقد لاحظت أنه من الناحية القانونية، يبدو أن الأقليات الدينية لم تكن من بين أكثر المستفيدين من الضمانات القانونية التي جاءت بها الثورة والتحول الديمقراطي الذي تبعها. ومن ناحية أخرى، فإننا شهدنا خلال السنوات التسع الماضية، وبعيدًا عن بعض الحوادث التي استهدفت فيها قوات الأمن والقضاة غير المسلمين، فلا يبدو أن الدولة تعتمد نهج عدائي تجاه الأقليات الدينية، وبدلًا من ذلك فإنها تتعامل معهم بـ “روح التسامح” التي تميز النهج التونسي. مع ذلك، فإن هذا التسامح لم يؤد إلى الاعتراف الكامل بالأقليات الدينية؛ مما يجعلها في فراغ قانوني وفي حالة نضال مستمر من أجل الاعتراف الكامل بوجودها وحقوقها.

لقد رأينا أيضًا أن معظم المضايقات يقوم بها المجتمع، وتنعكس في وسائل الإعلام والخطابات السياسية التي تصوّر غير المسلمين باعتبارهم مواطنين “درجة ثانية” (أو في أسوأ الحالات باعتبارهم مرتدين عندما يتعلق الأمر بالمتحولين عن الإسلام). هذه الإحالة إلى المواطنة من الدرجة الثانية مرتبطة بتاريخ إخفاء الأقليات، حيث شُيّدت الدولة التونسية الحديثة على أساس مفهوم الهوية العربية الإسلامية معا.

بالنسبة للمهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، فإنهم بالقطع يواجهون تحديات مرتبطة بالعنصرية، لكن يبدو أنهم لا يتعرضون للتمييز على أساس الدين، على الأرجح لأنه لا يُنظر إليهم كمصدر تهديد لهوية البلاد. برغم أن تركيز هذا البحث هو الأقليات الدينية وليس كل الأقليات، فإننا تناولنا بإيجاز وضعية التونسيين السود، الذين تم نبذهم بالكامل من الخطاب الرسمي؛ وذلك لنُظهر كيف يمكن أن تتشابك قضايا العرق والدين، وتؤدي لتحدي وإثارة الجدل حول مفهوم الهوية الوطنية التونسية باعتبارها كيان عربي مسلم فحسب. في نهاية المطاف، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار التغيير الديموغرافي، بالإضافة إلى التنوع العرقي والديني طويل الأمد في تونس. كما يتضح أن الوقت والجهد اللذان يبذلهما المعنيين بشكل مباشر هو ما يمثّل الزخم الرئيسي في سبيل اكتساب جميع التونسيين لحقوق المواطنة الكاملة.

 

[1] وفقًا للمعهد الوطني للإحصاء في تونس، بلغ تعداد السكان في الأول من يوليو 2019: 11,722,038 نسمة. تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، http://www.ins.tn/fr/indicateur-cle.[2] انظر الديباجة والمادة 1 من دستور 2014، وكذلك الديباجة والمادة 1 من دستور 1959.[3] يستند بعض المؤلفين إلى الأرقام التي قدمتها حكومة الولايات المتحدة، والتي تشير إلى أن العرب والمسلمين السُنة يشكلون ما بين 98% و99% من السكان. أرفض هذه البيانات للأسباب التي ذكرت للتو والتي ستظهر في المقالة.

[4] يُشير أكاديميون أيضًا إلى هذه النسبة المطلقة تقريبًا والمشكوك في صحتها بشأن السكان العرب والسُنّة: المصري، صفوان (2017). تونس: استثناء عربي (Tunisia: An Arab Anomaly). (نيويورك: منشورات جامعة كولومبيا)؛ وألكسندر، كريستوفر (2016). تونس: من الاستقرار إلى الثورة في المغرب الكبير (Tunisia: From Stability to Revolution in the Maghreb). (لندن ونيويورك: روتليدج). ص 1.

[5] اقتباس من تونسي يهودي خلال مقابلة أجرتها المؤلفة معه خلال إنجاز دراسة سابقة.

[6] أُجريت بعض الأبحاث في إطار دراسة سابقة ولا تزال نتائجها وثيقة الصلة. كواتريني، سيلفيا (2018). الهوية والمواطنة في تونس: حالة الأقليات بعد ثورة 2011 (Identity and Citizenship in Tunisia: The Situation of Minorities After the 2011 Revolution). المجموعة الدولية لحقوق الأقليات. 23 نوفمبر.

[7] أجريت المقابلات بالفرنسية وبالعربية التونسية، وقامت المؤلفة بترجمة الاقتباسات إلى اللغة الإنجليزية.

[8] شريف، فيصل (2011). العلاقات بين اليهود والمسلمين في تونس خلال الحرب العالمية الثانية: الدعاية والقوالب النمطية والمواقف، 1939-1943. (Jewish-Muslim relations in Tunisia during World War II: Propaganda, Stereotypes, and Attitudes, 1939– 1943). في إميلي بينيشو جوتريتش ودانييل جيه شرويتير (محرران)، الثقافة اليهودية والمجتمع في شمال إفريقيا (Jewish Culture and Society in North Africa). (بلومنجتون: منشورات جامعة إنديانا).

[9] المصري. مرجع سابق. ص 175. يانكوفسكي، ريتشارد سي. (2010). السطمبالي: الموسيقى والغيبوبة والغيرية في تونس (Stambeli: Music, Trance and Alterity in Tunisia). منشورات جامعة شيكاغو. ص63.

[10] أندرسون، ليزا (1996). شمال أفريقيا: تغييرات وتحديات (North Africa: Changes and Challenges). مجلة ديسنت (43) 3. (ص ص 113-116) والمصري. مرجع سابق. ص 238.

[11] وزارة الخارجية الأمريكية (2017). تقرير الحرية الدينية الدولية: تونس، تقارير تشير إلى وجود بين 1500 و2000 يهودي. بينما قدمت الحكومة التونسية في 2007 تقريرًا إلى لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري (CERD/C/TUN/19)، وذكر التقرير وجود 3000 يهودي تونسي.

[12] مرصد الحرية الدينية. تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، https://www.liberte-religieuse.org/tunisie.

[13] في تقريرها المذكور آنفًا إلى لجنة القضاء على التمييز العنصري في 2007، أشارت الحكومة التونسية إلى وجود 2000 مسيحي تونسي.

[14] الكاتدرائية الكاثوليكية في تونس. تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، http://www.cathedraledetunis.com.

[15] الكنيسة الكاثوليكية في تونس: تاريخنا (Eglise Catholique de Tunis: notre histoire). تاريخ الاطلاع 20 يونيو 2020، http://www.eglisecatholiquetunisie.com/notre-histoire/.

[16] الكنيسة الإصلاحية في تونس (Eglise Reformée de Tunisie). تاريخ الاطلاع 10 مايو 2020، https://www.ertunis.com.

[17] كنيسة القديس جورج الإنجليكانية (St George’s Anglican Church). تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، https://stgeorgetunis.com.

[18] تقرير المقرر الخاص المعني بحرية الدين أو المعتقد إلى مجلس حقوق الإنسان (A/HRC/40/58/Add.1). 3 أكتوبر 2019.

[19] تليفزيون تونس (2012). في الصميم: المسيحية في تونس (In depth: Christianity in Tunisia). تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، https://www.youtube.com/watch?v=agdTCVyHF1U. وقد عالج الفيلم القضية بطريقة إشكالية وأسلوب ازدرائي، وتم نشره على قنوات على قنوات أخرى على يوتيوب، حيث يمكن العثور على الإهانات والتعليقات السلبية.

[20] مقابلة مشتركة أجريت في 23 مايو 2020.

[21] كاستلينو وجوشوا وكاثلين كافانو (2014). تغيير الدين في الشرق الأوسط: أهمية مسألة الأقليات (Transformations in the Middle East: The Importance of the Minority Question). في ويل كيمليكا وإيفا بفوستل (محرران)، التعددية الثقافية وحقوق الأقليات في العالم العربي (Multiculturalism and Minority Rights in the Arab World). (منشورات جامعة أكسفورد). ص 63.

[22] غسان العياري ناشط في مجال حقوق الإنسان وعضو في جمعية التلاقي التي تناصر حقوق الأقليات الدينية. وهو أيضا صانع أفلام ومدرس في الجامعة. أجريت المقابلة في 27 أبريل 2020.

[23]   أبو عصب، نور (2011). سرديات الإثنية والقومية: دراسة حالة الشراكسة في الأردن (Narratives of ethnicity and nationalism: A case study of Circassians in Jordan). أطروحة دكتوراه (جامعة ورويك). تاريخ الاطلاع في 20 مايو 2020، http://go.warwick.ac.uk/wrap/50794.

[24] مقابلة أجرتها المؤلفة في ديسمبر 2019: الحق في التنوع (Azref i Tamezla: The right to diversity). مدونة مجموعة حقوق الأقليات. 18 ديسمبر 2019. تاريخ الاطلاع 20 مايو 2020، https://minorityrights.org/2019/12/18/azref-i-tamezla-right-to-diversity/.

[25] البهائيون في تونس: تاريخ البهائية في تونس. تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، http://bahaitn.org/arabe/histoire.html.

[26] بشير، م (2009). الوعي البهائي (Bahai Awareness). تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، http://www.bahaiawareness.com/fatwas_tunisia.html.

[27] سلمان، حسن (2020). صلاة جماعية لجميع الديانات في تونس لرفع بلاء كورونا عن البلاد. القدس العربي. 30 مارس. تاريخ الاطلاع 22 مايو، https://bit.ly/2zdYlmi.

[28] صفحة البهائيون في تونس على فيسبوك. تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، https://www.facebook.com/bahais.Tunisie/.

[29]  تقرير المقرر الخاص إلى مجلس حقوق الإنسان (2019).

[30] العفو الدولية (2014). جابر المجري: كيف يمكن لكلامك أن يغير حياة (Jabeur Mejri, Tunisia: How your words change lives). 3 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 20 يونيو 2020، https://www.amnesty.org/en/latest/campaigns/2014/12/jabeur-mejri-tunisia-how-your-words-change-lives/.

[31] التحالف المدني من أجل الحريات الفردية (2017). حالة الحريات الفردية: الانتهاكات تتواصل وبكثافة (تونس). ص3.

[32] التحالف المدني من أجل الحريات الفردية (2020). الحريات الفردية في 2019: خطر الشعبوية. أبريل. (تونس). ص12.

[33] الشرطة تضايق بعض المسيحيين في قفصة (L’ATSM dénonce : la police harcèle des Chrétiens à Gafsa ) (2016). موقع أنباء تونس. 1 ديسمبر. تاريخ الاطلاع، 22 مايو 2020، http://kapitalis.com/tunisie/2016/12/01/latsm-denonce-la-police-harcele-des-chretiens-a-gafsa/.

[34] القبض على مجموعة من المبشرين الإنجيليين في سوسة (Un groupe de missionnaires évangéliques arrêté à Sousse) (2020). ويبدو. 18 فبراير. تاريخ الاطلاع            22 مايو 2020، http://www.webdo.tn/2020/02/18/un-groupe-de-missionnaires-evangeliques-arrete-a-sousse/.

[35] كاستل، فريديريك (2019). في تونس: الحج اليهودي لكنيس الغربية إحياءً للسياحة (En Tunisie, le pèlerinage juif de la Ghriba pour relancer le tourisme). بي بي سي أفريقيا، 24 مايو. تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، https://www.bbc.com/afrique/region-48404272.

[36] محمد بن موسى هو أستاذ الهندسة المعمارية وعضو نشط في المجتمع المدني. أجريت المقابلة معه في 10 مايو 2020.

[37] الائتلاف المدني للحريات الفردية. مرجع سابق. ص8.

[38] مازي، فانيسا (2015). التونسيون السود يواجهون تمييزًا مستمرًا (The continued discrimination facing black Tunisians). مجموعة حقوق الأقليات. المنحدرون من أصول أفريقية: صورة عالمية.

[39] يانكوفسكي. مرجع سابق. ص 17.

[40] انظر الفصل الثاني في يانكوفسكي. مرجع سابق.

[41] مينجلي، فاليريا (2016). حملة من أجل التقاليد السطمبالية: تقرير عن التقاليد السطمبالية اليوم (Campaign for Stambeli tradition: Report on Stambeli tradition today,). أبريل. (حلول فنية: تونس). ص13.

[42] انظر الفصل الثاني في يانكوفسكي. مرجع سابق؛ وللنقطة السابقة انظر: غريسة، سلوى (2015). حول التعايش الديني والثقافي في تونس: نموذج مجتمع السود (De la coexistence culturelle et religieuse en Tunisie : l’exemple de la communauté noire). في فارشيشي، وحيد (محرر)، الحريات الدينية في تونس (Libertés Religieuses en Tunisie[). الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات (ADLI: Tunis).

[43] اللجوء في تونس (Terre d’Asile Tunisie) (2016). صور المهاجرين: مكونات الهجرة في المشهد التونسي (Portraits de Migrants: les composantes migratoires du paysage tunisien[). 15 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، https://www.france-terre-asile.org/images/stories/newsletters/Portraits%20de%20migrants.pdf.

[44] ستة آلاف طالب من جنوب الصحراء الكبرى يغادرون تونس (Six mille étudiants subsahariens ont quitté la Tunisie’) (2017). المدير الأفريقي. 16 يناير. تاريخ الاطلاع 22 مايو 2020، https://africanmanager.com/51_six-mille-etudiants-subsahariens-ont-quitte-la-tunisie-pour-des-raisons-dinsecurite/.

[45] مقابلة أجريت في 19 مايو 2020. تم إخفاء هوية المتحدث.

Read this post in: English

Exit mobile version